عبدالعظيم محمود حنفي / مصر بين مدرسة «المنار» و «الإخوان»!
| عبدالعظيم محمود حنفي * |نما في النصف الأول من القرن التاسع عشر وعي بعض المثقفين في البلاد الناطقة بالعربية بالأفكار الأوروبية الحديثة ونظمها، وحينما شعروا بقوة ضغطها عليهم في النصف الثاني من هذا القرن. تساءلوا عما يجب أو عما يكون قد أخذوه من الغرب، وإذا أخذوا منه شيئا فعلا فكيف يظلون محتفظين بعروبتهم وإسلاميتهم... وانقسم الفكر العربي المستيقظ إزاء ذلك إلى اتجاهين: اتجاه مرتبط بالسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ورشيد رضا. وهذا الاتجاه كان يهدف إلى تقديم تعريف جديد لمبادئ الإسلام الاجتماعية. أما الاتجاه الثاني فكان يرمي إلى فصل الدين عن السياسة وخلق مجتمع مدني مماثل للمجتمعات الأوروبية ولا أثر للإسلام فيه إلا بوصفه عقيدة دينية.وقد اتفق الاتجاهان على أن هناك تدهورا داخليا في المجتمعات الإسلامية، وعليه لابد من التغيير. ويعتبر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا من رواد مدرسة المنار وهي مدرسة إصلاحية اسمها مقتبس من جريدة المنار. وهذه المدرسة بمثابة الجذر الذي نشأت منه الصحوة الإسلامية المعاصرة، وهي مرتبطة بكل رموز هذه الحركة، وبصماتها واضحة على مختلف التوجهات الفكرية في عالمنا الإسلامي الآن. ويضيف البعض إلى هؤلاء الرواد حسن البنا (مؤسس حركة الإخوان المسلمين عام 1928) مستندين إلى إعلانه أن حركته امتداد طبيعي لجمعية الدعوة والإرشاد التي أسسها رشيد رضا ولإحيائه لجريدة المنار، ولبدئه التفسير في صحيفة الشهاب بسورة الرعد معللا ذلك بالبدء من حيث انتهى محمد رشيد رضا.ويقول بعض الباحثين مثل المستشار طارق البشرى في تحديده للوعاء الزمني للحركة الإسلامية المعاصرة بالقرون الثلاثة المنصرمة، أن مدرسة المنار تأتي في وضعية الحلقة الثالثة الفاعلة، فقد سبقتها حركتا إصلاح: اهتمت أولاهما بالدعوة إلى التجديد الفقهي. واهتمت الثانية بالإصلاح المؤسسي الذي بدأ باقتباس أساليب التنظيم العسكري الغربية وانتهى باقتباس الآداب والنظم القانونية الغربية، وأدى إلى ما اسماه ازدواجية المؤسسات في العالم الإسلامي. إن موجة الإصلاح الثالثة جاءت على يد رواد مدرسة المنار، فوضع الأفغاني حجر الأساس في الفكر الإسلامي الحديث المقاوم للاستعمار، ووضع محمد عبده حجر الأساس للفكر الإسلامي المقاوم للقابلية للاستعمار، واهتم رشيد رضا بالوصل بين التوجه السلفي وحركة التجديد، وركز حسن البنا على الحركة السياسية وربطها بالفكر وركزوا جميعا على العودة إلى الإسلام للخروج من الجمود والاستبداد والتبعية. وتبقى أهمية الإشارة إلى تلك المدرسة هي رؤيتها لموضوع التغيير في المجتمعات. حيث ترى أن حال الأمة هو المحدد الأعلى لأنسب طرق إصلاح أمرها، والسمو بها على مدارج الأدب السياسي للأمم. ومعنى ذلك أنها أرست تقليدا سياسيا مهما هو شرعية اختلاف وسائل تحقيق الهدف الواحد حسب متطلبات الواقع مع تحبيذها للتدرج في الإصلاح، فهم لا يحبذون الثورات ويرون الثورة كالريح الصرصر، وأن الدعوة الهادئة بالحجج الناهضة أولج في المسامع، وأجول في المجامع، بطيئة السير خفيفة الأثر في أول أمرها. والأمة لا تأخذ من الخطتين إلا بقدر استعدادها. فالثورة أسرع لكن إثمها اكبر من نفعها إن كانت الأمة غير مستعدة للبناء عقب الهدم، أما الدعوة اللينة فهي اسلم عاقبة وقد يخفى أمرها وتأثيرها حتى على المنتفعين بها... ولم تتخذ تلك المدرسة بكل اتجاهاتها موقف الرفض تجاه السلطة على طول الخط. فغايتها هي إصلاح السلطة لا نبذ السلطة، ووصلت في ذلك إلى حد الطمع في دور موقت للمستبد العادل. وقد قبل الأفغاني ومحمد عبده مناصب رسمية الأول في إيران والثاني في مصر. والفروق بين رواد تلك المدرسة فروق وسائلية مرحلية لا فروق في الهدف أملتها المعطيات الموقفية... ولما كان الأفغاني قد بدأ حركته قبل أن تترسخ أقدام الاستعمار الغربي في القلب الإسلامي فانه رأى أن دروسه الرامية إلى التحرر الوطني والمقرونة بالتنظيم السياسي السري الثوري هي الحل. أما محمد عبده الذي عاد إلى مصر وقد ترسخت فيها أقدام الاحتلال الانكليزي فقد رأى في الإصلاح التدريجي وسيلة للوصول إلى تلك الغاية بثورة سلبية لا تروى بالدماء بل بماء النيل، ولا يخلطها شيء من دمع العيون، ولا يتكدر صفوها بماء النفوس، وحكم محمد عبده على أسرة محمد علي بميزان الحرية التوحيدية، وهي الحرية المؤسسة على مبدأ التوحيد كناظم لها وهي القيمة التي تتأسس على مبدأ لا إكراه في الدين وتستدعي منظومة قيم التحلية المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تستدعي قيم التحلية المتعلقة بالنهي عن المنكر، والانتهاء عنه. والحرية بهذا المعنى مرتبطة بالمسؤولية. وحدد العلاقة بين الدين والدولة وبين الدولة والمجتمع بقوله: لا دين إلا بدولة، ولا دولة إلا بصولة، ولا صولة إلا بقوة، ولا قوة إلا بثروة، وليس للدولة تجارة ولا صناعة، وإنما ثروتها بثروة أهاليها، وشرط ثروة الأهالي هو نشر العلوم فيهم.من المفيد العودة إلى المنابع الفكرية للتيار الإسلامي في مصر للإجابة عن التساؤلات الحائرة حول هذا التيار، مثل لماذا تلكأ في الالتحاق بالثورة ولماذا دخل بقوة بعد تيقنه من نجاحها ولماذا كان يعقد الصفقات والمساومات مع النظام السابق ومع القيادة الحالية، وما سر تحركه في الأحياء الفقيرة والمهمشة وإنشاء جمعيات خيرية باتفاق ضمني مع السلطة السابقة وعلاقته بالتيار السلفي؟ ويمكن في هذا الإطار فهم مغزى و أبعاد رسالة الدكتور محمد بديع، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، التي ضمنها ان تكوين الخلافة الراشدة من الأهداف المرحلية التي حددها الإمام حسن البنا لتحقيق الغاية العظمى للجماعة، وهي أن تحيا من جديد الدولة المسلمة وشريعة القرآن، «إن تحقيق الغاية العظمى بات قريبا بعد ثورات الربيع العربي».والإشكالية ربما تكون أن ذلك التيار يفتقد القيادة الملهمة التي بدأت مع رواد مدرسة المنار ولذلك تجد بعض المواقف مشوشة ومرتبكة وعاجزة عن اتخاذ القرار السليم في الوقت الصحيح مما يضع علامات استفهام حول: هل أقوال الإخوان ستكون مطابقة لوعودهم بتعزيز مجتمع ديموقراطي منفتح أم لا؟ وعما إذا كانت تجربة الحكم ستضع نهاية للهالة البراقة المحيطة بهم على محك الواقع العملي العسير. المقال منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحريةwww.minbaralhurriyya.org