السيد هاني فحص / مقال / قراءة... في فصل من الذاكرة
| بقلم: العلامة السيد هاني فحص |أنا عاملي من جبل عامل من جبل القبيلة العربية اليمنية. التي تشأمت فيمن تشأم من القبائل اليمنية بعد سيل العرم وانهيار سدّ مأرب، واستوطنت كتف الجليل... من الجبل الذي اتبعه الصليبيون إدارياً بإمارة القدس... لأنهم ربما كانوا قد قرأوه جيداً... أنا عربي مسلم شيعي هاشمي من نسل الحسين ذي الدمعة نجل الامام علي بن الحسين (زين العابدين) جئنا الى حوران ومنه انتقلنا الى جبل عامل الذي اكتسب معنى اضافياً الى معناه عندما أصبح جزءاً من لبنان دون أن ينفصل عن فلسطين، الامتداد الكلي والقضية.على مدى عقود من التجزئة والكيانات التي عادت فترسخت. ظلت لغتي ووجداني وذاكرتي وأشواقي تتمنع على الكيان. تتجاوزه شعراً وأحلاماً، تمر به، تتعامل معه واقعاً. تسافر في سوريتها وعروبتها الى آخر المدى المفتوح والمغلق، الى آخر الرمل والنخيل. وترتدي اسلامها شكلاً ومضموناً على عروبة رأت فيها ولها وظيفة حضارية دونها يرتبك الأداء الاسلامي ولا يصل ودون الاسلام هماً حضارياً انسانياً مفتوحاً واسعاً لها، تصبح محارة فارغة لا تملك الا أن تتقوقع على هواء وتعتدي لتحيا أو تعيش ولا تحيا ولا تعيش...واذا ما كان التشيع قد غلب علينا وكان رؤية لدينا فانه بمقتضى هذه الرؤية لم يحبسنا ولا حبسناه، لم يقطعنا، بل أعاد دمجنا وتأهيلنا للفعل في السياق الملائم مكاناً وزماناً واتجاهاً، لقد اتخذناه نهجاً يغلَّب مصلحة الأمة على مصلحة الفئة، مسترشدين بفقه أهل البيت (ع) وأخلاقيتهم وسلوكياتهم، منضبطين بها.مرة حصلت مشادة بيننا وبين الشيخ ظاهر العمر ثم انهمكنا واياه بقيادة ناصيف النصار في معركة ضد أحد الظلمة من الولاة قبل قرنين ونيف من الزمان وانتصرنا معاً... وكنا من قبل قد تعاملنا مع السلطة العثمانية من دون عقد، عارضنا لما فيها من جور نسبي، شأن بقية العرب والمسلمين، وعندما طغى الجور وارتفع منسوبه رفعنا من وتيرة معارضتنا وحجمها، دون أن يصب حبنا في طاحونة الآخر... الخارج، العدو... بل كنا اذا ما تصدى الخارج، أي خارج، لهذه السلطة بالعداء والصراع، سرعان ما نتنازل ونأخذ موقعنا في الصف الواحد مقابل الخارج المعتدي، وعلى لساننا وفي الأعماق منا المأثور من قول علي (ع) عندما أشيع في صفين أن جيوش ملك الروم تهاجم أطراف الشام، قال علي (ع) : والله لو فعلها ابن الأصفر ـ ملك الروم ـ لوضعت يدي في يد معاوية أو لقاتلت تحت لواء معاوية أو كما قال... في حين كان معاوية باجماع المؤرخين قد صالح ملك الروم على جزية وفيرة ليتفرغ للصراع الداخلي.وفي أواخر القرن الماضي، كان الارباك قد بلغ غايته في أداء الدولة العثمانية، زمن عبدالحميد، فانعكس ضعفاً وتفككاً وامتد جوراً. وعسفاً يميل المنصفون الى التخفيف من مسؤولية عبدالحميد عنه، لكونه وارثاً ومستهدفاً لا مؤسساً مقترفاً فقط، وقد أصابنا في جبل عامل الكثير من الآثار السلبية لهذا الوضع، فكيف تعاطينا معه؟رأينا الغرب وراءه، يريد من ورائه اسقاط الدولة العثمانية، لا عقاباً لها على جور ترتكبه ازاءنا وازاء الأطراف الأخرى من ديار السلطنة، بل عقاب على ما حققته من وحدة حسب منظور الغرب، وهنا أجرينا حساباتنا الشرعية وحكمنا معيارنا، معيار المصلحة والمفسدة، مصلحة الأمة بالطبع، فكنا مع عبدالحميد بوضوح قاطع، بانين في ذلك أو متزامنين مع موقف ومسعى القائد المجاهد جمال الدين الأفغاني (السني الشيعي معاً بشجاعة وانسجام يغري العقلاء)، الذي رأي الغرب يتوحد ليعد موحداً لعدوانه على الدولة العثمانية مركزاً وأطرافاً... وكان السيد الأفغاني من قبل يناصب الدولة العداء لاستبدادها وظلمها ويريد أن يسقطها هو، بيده ولحسابه - حسابنا - لا أن يسقطها الغرب بيده ولحسابه أو بيدنا لحسابه، ولملم السيد مبادئه وشرفه وحميته وعلمه ووعيه وذهب الى الأستانة ليقف الى جانب عبدالحميد مشيراً ناصحاً كاد أن يثمر لولا أن تدخل الصهاينة والماسونيون ليحدثوا الشرخ بينه وبين عبدالحميد الذي اقترف خطيئة الغضب على الصهيونية والمعاندة لهرتزل ولم يفرط بفلسطين... وقد كان من انجازات جمال الدين على هذا الطريق ما أحدثه من فتحة واسعة في السد الذي كان قائماً بين الدولة العثمانية وايران القاجارية باتجاه الوحدة في مواجهة العدوان الغربي، قياساً على التجربة التي تمت بعد محاصرة دمياط من قبل الصليبيين بين الدولة الفاطمية والدولة العباسية ممثلة بالسلطان الشهير نور الدين محمود، وغني عن البيان أن جمال الدين كانت له يد في مصرع ناصر الدين شاه ايران الذي انكفأ في لحظة عن هذا المسار الوحدوي فقتله ميرزا رضا كرماني تلميذ جمال الدين ومريده في المكان نفسه الذي سبق للشاه أن سجن فيه السيد جمال وعذبه في احدى ضواحي طهران...هذا ليس حدثاً فرداً في تاريخنا الذي يتعامد فوق الجراح والفوارق والمسافات. بل له جذور وتقاليد سابقة وتجليات متعددة، مضمونها الأساس المصلحة المضبوطة بفقه توحيدي وأخلاقية نبوية امامية، تعطي الأولوية للخطر الخارجي بما يقتضي ذلك من تعطيل تلك الصراعات الداخلية والمشاحنات.بعد معركة «جالديران» في الربع الأول من القرن السادس عشر الميلادي، واحتلال تبريز عاصمة السلطنة الصفوية من قبل العثمانيين وهروب الشاه اسماعيل الى أصفهان، عاد العثمانيون بعد أكثر من قرنين ليجدوا في المصداقية الشيعية في العراق اشكالية لا تحل بالعنف والعداء، وكان لابد من تعديل في التوجه العثماني في العراق على تعقيدات كثيرة وشائكة، وحصل التعديل فعلاً، وتصدى العلماء لدورهم التوحيدي فكان الشيخ جعفر الكبير ـ كاشف الغطاء ـ المرجع، رسول خير بين الطرفين العثماني والصفوي، لم يرسله أحد، بل ندب نفسه للرسالة، فقرب ما قرب وحلّ ما حلّ من اشكالات ومشكلات ووفر كثيراً من المتاعب والخسائر والدماء والمصالح، وعنه ورث حفيده المرجع الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء هذا الموقف التوحيدي عندما أمّ المصلين المؤتمرين في القدس عام 1936 وهم قادمون من أقطار العالم العربي والاسلامي في مواجهة التحدي والعدوان الصهيوني ومن بعد جاءت مذكرته الشهيرة ـ الكتاب ـ (المثل العليا في الاسلام في بحمدون) وثيقة ناصعة في مواجهة محاولة الغرب العدوان على الاسلام بتقويض قيمه السياسية التحررية من الداخل.وامتدت المواقف والمسالك والمعايير عاملة فاعلة الى ما بعد سقوط عبدالحميد ووصول الاتحاديين الى السلطة بما فيهم من سوء وعنصرية وعصبية وماسونية... وعندما أكل المخلصون الطيبون من المشاركين في المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913 الطعم الاستعماري بطرح الاستقلال الذاتي الملغوم بالانفصال لبلاد الشام، توسل الاتحاديون التتريكيون بخصمهم العروبي المسلم الشيعي الصلب عبدالكريم الخليل ليذهب الى باريس ويقنع المخلصين من المؤتمرين بأن الاستقلال الذاتي ليس الا غطاء لنوايا التجزئة والاحتلال، وذهب واقنع وأحدث ارتباكاً في المؤتمر بعدما كان أحد المؤتمرين المسيحيين القادمين من أميركا الجنوبية بصفاء وبُعْد نظر عظيم قد قدم اقتراحاً بإدراج بند الأخطار الخارجية على بلاد الشام على جدول المناقشة فسقط الاقتراح بالأكثرية الساحقة أو الاجماع!! لأنه - حسب التعليل - ما من خطر على بلاد الشام سوى الخطر العثماني!! عشية الحرب الأولى؟.وكانت الحرب، وسقطت السلطة العثمانية التي كنا قد أصبحنا معها، كما كل المسلمين لأن عدوها هو الغرب... (أذكر المرحوم عجاج نويهض عام 1981 وقبل سنة واحدة من وفاته كيف كان يروي لنا ويبكي ذكرياته عن الأمير العظيم شكيب أرسلان وهو يخطب في قرى المتن الاعلى يستحث الأهل على التطوع للدفاع عن الوطن وهو يبكي بكاءً مراً وكيف أنه جهز كتيبة قاتل بها في ليبيا...) وبكاها - السلطة العثمانية - عالمنا المرجع التقي السيد محسن الأمين بقصيدة طويلة.وحاولنا انقاذها في العراق وهي على مشارف السقوط دون حساب للربح والخسارة، في ثورة العشرين التي قادها علماؤنا بنبل وبسالة وشهامة ما زلنا نفتخر بها وسنبقى.وطوال فترة حكم الاتحاديين كان الشريف حسين، وبسبب صلف الاتحاديين قد وقع في قبضة مكماهون، وكنا في الخط المقابل، الى أن سقط الاتحاديون، فانفتح باب التناقض والتناحر بين حسين واسرته وبين الغرب، وانكشفت المؤامرة وأصبح الحسين وأسرته موضوعياً في مواجهة الغرب، وهنا أصبحنا مع الشريف حسين دون تردد لأننا ضد المستعمر، وعندما أراد المستعمر أن يدرجنا في مشروع التجزئة بإعطائنا دويلة مسخاً في جبل عامل، وأرسل لنا لجنة كينع كراين لتستفتينا -أفتينا قيادة وقاعدة، علماء وزعماء وجمهوراً واسعاً، أفتينا بالوحدة... وعندما اشتدت الوطأة علينا، عقدنا مؤتمر الحجير وطيرنا مذكرتنا من هناك الى فيصل في دمشق والى العالم والتاريخ، على يد العلماء قائلين: ان جبل عامل جزء من سورية بحدودها الطبيعية.قفزاً على المراحل والعقود والسنوات والأيام والأحداث والتواريخ والمناسبات... من منا لا يذكر فرحنا بالثورة المصرية... والجزائرية... ووو؟؟؟ورحلاتنا أطفالاً على ضيق ذات اليد الى دمشق للمشاركة في أعراس الوحدة والدبكة على ضفاف بردى والعيون معلقة على شرفة قصر الضيافة و«حموي يا مشمش»! من منا، نحن جيل أطفال الوحدة وفتيانها من لا يقول لزوجته وأطفاله لو مرّ الف مرة على طريق دمشق - بيروت هذه ميسلون ويوسف العظمة؟ ويمتد حبل الذكريات... سعيد العاص وأحمد مريود وابراهيم هنانو وحسن الجزار وسلطان باشا ووو. الى آخر الثورة العربية الى أدهم وصادق وسليمان النابلسي وسليمان الحلبي وسليمان خاطر وأبو علي أياد وأبو جهاد والأخضر العربي وكمال ناصر الخ... والله وبالله وتالله لم يكن فرحنا بعبدالناصر فرحاً بالاشتراكية بل كان فرحاً بالوحدة وحسب... لم تكن علاقتنا بالوحدة مشروطة الا بشرط العدالة والحرية والديموقراطية.ومن دمشق صالح العلي والقسام وجول جمال وبدوي الجبل وأدونيس كنا ندلف الى بغداد، من دمشق حبل سرتنا الى العلم والأدب... من السيدة زينب وحجر بن عدي الى النجف وكربلاء، الى علي نهج البلاغة والسبط الشهيد والأحفاد، ونعود مفعمين علماً وأدباً ولغة عربية وقراراً بالجهاد ضد الفرنسيين والصهاينة واحتضان المقاومة الفلسطينية والصبر على الخطأ لأن جبل الجليل شقيق جبلنا ورفيقه الى الأبد لم يغب عن عيوننا وشوقنا أن نرى القدس من قممه... ولهجة عراقية ومصطلحات يومية من الاستكانة، لكوب الشاي ذي الخصر اللطيف والفم المذهب الى «النومي بصرة» الحامض العماني... الى المائدة وأصناف الطعام من المسمّى الى القيمة الى الفسانجون... الى المراثي التي تصل بنا الى آخر الحزن فنفرح ومن فرحنا نقاتل الأعداء...عندما نفقد أباً عزيزاً نصغي الى سكينة بنت الحسين في (الحسجة العراقية):هضيمة يا بويا والله هضيمة / أنا صير من زغري يتيمةأتاري الأبو يا ناس خيمة / يفيي على بناته وحريمهوعندما تضيق بنا السبل والأوطان والسجون والأفكار والضلوع والمشاعر... عندما نشتاق الى النجف وحواريها والكوفة ونخيلها وبغداد ودجلتها وأبي نواس والكميت ودعبل الخزاعي والحلاج والكرخي وأبي حيان التوحيدي والشريف الرضي والجواهري والرصافي ورفائيل بطي وأنستاس الكرملي ومصطفى جواد وغائب طعمة فرمان والسياب وعبدالحسين العبدالله وموسى الزين شرارة وعلي الزين والحوماني وفتى الجبل وجورج جرداق وبولس سلامة ومعروف سعد والشيخ راغب ومحمد سعد نصرخ مع مظفر النواب:يكضن ورد يا ديرتي لحسنك وموتن عالتبنشوقي الك شوق القطا التايه وموعات الدهنهمِّينه أذوق مّيتك واركض بزخات المزندونك يحز بلوزتي الخنجر... عيب اونواذا ما اشتقنا الى الحبيب قلنا مع مظفر:من ظني كظك بالحلم عنبر فحتردت أجيسك جست روحي وفرفحتويفتخر ثلاثة من أولادي الخمسة على اخوتهم بأنهم عاشوا في العراق بعضاً من عمرهم... وتفتخر احدى ابنتي على الجميع بأنها ولدت في الكوفة... في حي كندة، في حي الكندي والمتنبي على مقربة من الشهيد هيثم التمار الذي صلب على النخلة، ومسجد الكوفة حيث جرح ابن مراجانة علياً (ع)، وقصر الامارة البائد كغيره من القصور، وهاني بن عروة ومسلم بن عقيل سفير الحسين... على مقربة من شط الفرات والكناسة وآثار ديارات النصارى وحيرة المناذرة وبيت علي بن أبي طالب (ع) الذي مازال قائماً... في الستينات كنا نتمشى على الرمل، نطالع شجر العاقول ونبات الحنظل ونقرأ التاريخ في رمل الكوفة.ذات أصيل رأينا أحد أمراء البيان العربي المرحوم الشيخ أمين الخولي مرتبكاً قرب منزل الامام علي (ع) قلنا ما بك أيها الأستاذ؟ قال: الولية حتقتل نفسها... وجدناها... الدكتورة عائشة عبدالرحمن - بنت الشاطئ - تمرغ راسها وجبينها في تراب جدران بيت فاطمة الزهراء (ع) وتبكي حتى النشيج... تبكي من الفرات الى النيل.... من أحمد شوقي الكردي، أمير شعراء العرب، الى محمد مهدي الجواهري الفارسي سلطان الشعر العربي:«أنا ابن كوفتك الحمراء لي طنب بها وإن طاح من أركانه عمد».