لم تَحصد الحرب السورية الدائرة منذ سبعة أعوام، القتلى والجرحى والممتلكات والبنية التحتية فقط، بل حصدتْ معها صدقية الإعلام واصطفافه من جهة او أخرى مقابلة، وكذلك مهنيّته ومن فوق كل ذلك حرية الكلمة والرأي الآخر.
وبدأ الاعلام الغربي بالالتفاف على الحرب السورية وترْكها وراءه لأنه خسر المعركة، معركة الحرب الشاملة ومعركة تغيير النظام الذي طالب به منذ الأيام الأولى من الحرب.
وفَقَدَ الإعلام مهمته الصحافية التي تقتصر على إبراز الحقائق وإبداء التحليلات من دون ان تلغي الرأي الآخر المضاد لها. ولم يعد العالم بعيداً عن الحقائق، اذ ان البحث عن الأخبار لم يعد يقتصر على قراءة الصحف والمجلات ومتابعة شاشات التلفزيون والقنوات الإخبارية، بل بفضل وجود الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي أصبح كل فرد يتقصى الحقائق على طريقته الخاصة بتفحُّص كل المصادر التي يستطيع الوصول إليها لأنه لم يعد يؤمن بالإعلام الكلاسيكي الذي فَقَدَ صدقيّته.
فعندما يتبنى الإعلام وجهة نظر الدولة التي يعمل فيها ويدعو الى الحرب وتغيير النظام، يصبح طرفاً في النزاع ويوجّه مراسليه نحو رأي واحد وهدف مشترك يقضي بتنفيذ واتباع «سياسة الجريدة» كما تقول مراسلة «واشنطن بوست» لويز لافلوك، من دون الاهتمام بحقيقة ما يجري على الأرض. إذ أصبح استقصاء الخبر من الناشطين المعادين لحكومة دمشق «عُرْفاً» صحافياً أبطل حيادية الصحافة العالمية وصدقيّتها.
ولم يقتصر دور الإعلام على مهاجمة النشطاء الداعمين لحكومة دمشق والمناهضين لتغيير الأنظمة بشكل عام، بل ذهب أبعد من ذلك الى مهاجمة الأكاديميين الذين يرفضون تبني وجهة نظر واحدة وينادون بالاستماع وإفساح المجال لأكثر من وجهة نظر ليتسنى للمراقبين الوصول الى آراء مختلفة ليبنوا عليها آراءهم من دون فرْض خيار الحرب عليهم.
فلا عجب ان يقول اون جونز الكاتب في صحيفة «الغارديان» البريطانية ان «الشيء الوحيد الذي تعلّمتُه من العمل في وسائل الإعلام البريطانية ان الجميع يتأثر بفكر جماعي خانق، غير متسامحين مع النقد، يعاقبون المنشقّين (الذي يفكرون بطريقة مختلفة) الداخليين، ويعمل في مراكز مهمة في هذه الصحف فقط مَن لديه صلات (واسطة) او خلفية شخصية (عائلية او من طبقة معينة) بدل الجدارة».
من الطبيعي ان تنتفض الصحافة العالمية في انتفاضتها الأولى الكبرى لأنها خسرتْ الحرب السورية التي دعمتْها ووجهت كل طاقتها لإسقاط النظام... ولم يسقط. وتعلم الصحافة ان حربها الخاصة الفاشلة سترتدّ عليها لأن القرّاء سيحاسبونها على الأخبار والتحاليل الخاطئة طوال الأعوام السبع من الحرب. ومن أجل ذلك فهي - الصحافة العالمية - تبحث عن كبش الفداء لحرف النظر عن فشلها وعن خداع القراء. ومن المستحيل ان تقبل هذه الصحف بالهزيمة من دون رد فعل، ولذلك اتجهت نحو أفراد معينين لتُسكِت أصواتهم وتتّهمهم بأنهم يعملون لدولة عظمى مثل روسيا.
طبعاً فهذا يذكّرني بيوم قامت حركة«امل»بتوجيه ضربة قاسية لاسرائيل في التسعينات من القرن الماضي. فأعلنت تل ابيب ان«حزب الله»يقف وراء الضربة، لأنها لا تريد الإقرار بأن حركةً ضعيفةَ التنظيمِ العسكري وجهت هكذا ضربة بل احتاجت اسرائيل إلى اتهام تنظيم قوي للتخفيف عنها ولأجل سُمْعتها.
وهذا ما تفعله الصحافة العالمية: اذ ان اتهام روسيا يَحْفظ لها ماء وجهها الذي فقدتْه. فأثناء عملي في وكالات إعلام عالمية، تعوّدنا قراءة الوكالة ذات الصدقية الدائمة وإبعاد الى اقصى مسافة الوكالة ذات الأخطاء المتكررة. وهذه قاعدة يتبعها جميع مَن في هذه المهنة. ولذلك سيكون صعباً جداً على الصحافة العالمية استعادة عافيتها
ولا سيما ان كتّاباً محترفين ومن القدماء ذات الصدقية وقعوا في خطأ السعي«وراء الساحرة لصيدها»ووراء الاتهامات الخاطئة وعلى رأس هؤلاء«بي. بي. سي» البريطانية.
من الممكن ان يعتقد هؤلاء ان الوسيلة للخروج من هذه الأزمة الحقيقة وخسارة الصدقية هو الخطأ الجماعي. إلا ان هؤلاء نسوا ان القراء لا يرحمون ويحاسبون كل مَن أخذهم الى ناحية الأخبار الكاذبة.
لقد خسر الإعلام أمام نشطاء ولم يتقبلوا الهزيمة فسعوا الى الهجوم المنفرد. نعم هذا الإعلام يستطيع التأثير على الأشخاص لإن هذا الاعلام محترف ومتّحد أمام اشخاص تعلّموا من الحرب فقط.
إلا ان الحرب السورية أودت بمناصب رؤساء كثر ورؤساء حكومات عدّة وبقيت الحكومة السورية صامدة. واليوم، تذهب الحكومة السورية بأسس الصحافة العالمية وتضربها في الصميم. والسؤال مَن الضحية التالية قبل انتهاء الحرب في بلاد الشام؟