تتعمد إسرائيل تأخير تطبيق وقف الأعمال العدائية المتفق عليه بضغط أميركي، ما يكشف عن اتساع الخلاف بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب.

فالهدف من الاتفاق، الذي فرضه ترامب على نتنياهو بعد عامين من الحرب المدمرة في غزة، هو وقف إراقة الدماء، وفتح المعابر، والسماح بالإغاثة الإنسانية وإعادة الإعمار. ومع ذلك، وبعد أسابيع، تُعرقل إسرائيل كل خطوة من خطوات الاتفاق، سعياً منها للحفاظ على السيطرة العسكرية على أكثر من نصف غزة، ومنع أي بوادر انتعاش أو عودة الحياة الطبيعية إلى القطاع.

نصّ وقف النار، الذي فرضه البيت الأبيض بعد مقاومة شديدة من نتنياهو، على أن توقف إسرائيل عملياتها العسكرية، وتنسحب من مناطق محتلة عدة، وتعيد فتح معبر رفح، وتسمح بدخول ما لا يقل عن 600 شاحنة مساعدات يومياً إلى غزة.

في المقابل، كان على «حماس» إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين المتبقين، وتسليم جثث القتلى خلال حملة القصف الإسرائيلية. أعادت الحركة جثث عشرة جنود، وناشدت المجتمع الدولي تقديم المساعدة لانتشال الجثث المتبقية التي يُعتقد أنها عالقة تحت آلاف الأطنان من الأنقاض. ويقبع العديد من هذه الرفات تحت أنقاض مبانٍ وأنفاق دمرتها الغارات الجوية، وقد طلبت «حماس» تدخل فرق إقليمية متخصصة ومجهزة لمثل هذه الأعمال.

تطوعت بعثة بحث وإنقاذ تركية، من بين البعثات القليلة التي تتمتع بالقدرة التقنية على العمل في مثل هذه الظروف، للمساعدة. لكن إسرائيل منعت دخولها إلى غزة، متذرعةً بمخاوف أمنية. ويبدو أن الدافع الحقيقي هو رغبة إسرائيل في تأخير انتشال جثث جنودها واستخدام هذه القضية كورقة ضغط لتأجيل تنفيذ بنود وقف النار.

عملياً، مكّن هذا إسرائيل من الحفاظ على قبضة عسكرية حازمة على ما يقارب من 53 في المئة من قطاع غزة، خصوصاً في المناطق الجنوبية والوسطى المدمرة.

الوضع مأسوي. وقد أكد مبعوثو الأمم المتحدة على الأرض غياب الآليات الثقيلة اللازمة لإزالة ما يُقدر بـ 60 ألف طن من الأنقاض التي تُغطي القطاع الآن. أُلقي أكثر من 200 ألف طن من الذخائر على غزة خلال العامين الماضيين، ما أدى إلى تدمير أحياء بأكملها.

اختفت الشوارع، ومُحيت المناطق السكنية، ومازالت مجتمعات بأكملها مدفونة تحت الأنقاض. لم تُظهر إسرائيل أي نية للسماح بإعادة الإعمار أو حتى إزالة الأنقاض، مفضلةً بدلاً من ذلك أن يواصل السكان الناجون العيش في ملاجئ موقتة أو وسط حطام منازلهم المدمرة.

عملت الجرافات الاسرائيلية لأشهر لتغيير تضاريس أحياء بأكملها، ومحو النسيج الحضري القديم، وتمهيد الطريق لمناطق جديدة تسيطر عليها والتي يمكن أن تتطور لاحقاً إلى مستوطنات أو محيطات عسكرية.

تكتيكات التأخير

وتتجاوز تكتيكات نتنياهو التأخير. إذ إنه في المرحلة الأولى من الانسحاب، أعلنت إسرائيل أنها تراجعت إلى «خط أمني» لا يمكن عملياً لأي مدني في غزة تحديد موقعه أو التعرف عليه. هذا الخط غير معلم وغير محدد وقاتل. كل يوم، يُطلق جنود إسرائيليون النار على المدنيين الفلسطينيين الذين يحاولون الاقتراب من منازلهم، ويفرضون حدوداً غير مرئية. هذا الغموض المتعمد يمنح إسرائيل حصانة من العقاب لتقتل بذريعة الدفاع عن النفس، ويحافظ على مناخ من الخوف يثني العائلات النازحة عن العودة إلى ممتلكاتها.

وإدراكاً منها لتاريخ نتنياهو في تخريب الاتفاقيات، أرسلت الإدارة الأميركية، نائب الرئيس جي دي فانس والمبعوث الخاص ستيف ويتكوف إلى إسرائيل للإشراف على الالتزام بوقف النار. مهمتهما هي ضمان احترام إسرائيل لما يعتبره ترامب أحد أهم إنجازاته في السياسة الخارجية.

ومع ذلك، يقاوم نتنياهو كل شكل من أشكال الرقابة. فرغم الحصة المتفق عليها وهي 600 شاحنة يومياً، لم تسمح إسرائيل إلا بدخول 700 شاحنة إلى غزة على مدى 10 أيام - وهو جزء ضئيل مما وعدت به، وتالياً فإن إمدادات الغذاء والوقود والأدوية مازالت شحيحة، وتواصل إسرائيل استخدام المساعدات الإنسانية كسلاح ضغط على السكان المحاصرين.

حاول البيت الأبيض الحفاظ على المرونة الدبلوماسية، معلناً أن إسرائيل تحتفظ بحقها في الدفاع عن قواتها المنتشرة والرد على أي انتهاكات من «حماس» من دون خرق الاتفاق وبنوده. لكن هذه اللغة منحت نتنياهو مساحة لإعادة تفسير وقف النار كلياً.

بالنسبة إليه، يُصبح أي تأخير لتسليم جميع الجثث المستحيل انتشالها بسهولة كذريعةً لمواصلة الغارات الجوية، والاحتفاظ بالقوات، وإعادة تعريف «وقف الأعمال العدائية» على أنه هدنة إسرائيلية أحادية الجانب بدلاً من هدنة متبادلة. ومع انطلاق الحملة الانتخابية لأكتوبر 2026، تدفع «غرائزه السياسية» نتنياهو نحو التحدي والقتل. وأصبحت صورته كقائد لا يلين أبداً للضغوط الخارجية - وخصوصاً من واشنطن - رصيده الانتخابي الرئيسي.

داخل إسرائيل، يدعم الرأي العام إلى حد كبير النهج المتشدد. بعد إطلاق 20 رهينة أحياء، بعد تسليم عشر جثث، انقلب العديد من الإسرائيليين على الاتفاق، مطالبين حكومتهم باستئناف الحرب وسحق «حماس» تماماً. هذا المزاج الاجتماعي الانتقامي يعزز قناعة نتنياهو بأنه لا يخسر شيئاً بإطالة أمد المعاناة في غزة أو بتقويض جهود وساطة ترامب.

فحساب رئيس الوزراء بسيط: كلما تأخر، ضعف موقف الولايات المتحدة، وزادت قدرته على تشكيل غزة بعد الحرب وفقاً لأولويات الأمن الإسرائيلي.

من جانبها، طالبت «حماس» إسرائيل باحترام خط الانسحاب المحدد في وثيقة وقف النار المكونة من 20 نقطة ووقف توغلاتها اليومية. لكن القوات الإسرائيلية مازالت تحتل مواقع خارج تلك الحدود، رافضة الانسحاب أو توضيح إحداثياتها الدقيقة. في عدة حالات، قتلت الغارات ونيران القناصة مدنيين حاولوا العودة إلى أحيائهم، في انتهاك واضح لنص وروح وقف النار.

جماعات مسلحة جديدة

في الوقت عينه، بدأت إسرائيل في غزة تكرار إستراتيجية استُخدمت سابقاً في جنوب لبنان. فإضافة إلى إنشاء قوات محلية بالوكالة، ظهرت جماعات مسلحة جديدة، بتمويل وتجهيز إسرائيلي، في كل أنحاء القطاع. في رفح، اتُهمت ميليشيا تُطلق على نفسها اسم «القوات الشعبية» بقيادة ياسر أبوشباب، بنهب المساعدات الإنسانية وإعدام المدنيين.

شرق خان يونس، يقود حسام الأسطل ما يُسمى «القوة الضاربة لمكافحة الإرهاب»، بينما في الشجاعية، يقود رامي حلس، تشكيلاً آخر موالياً لإسرائيل.

في الشمال، يقود أشرف المنسي جماعة تُعرف باسم «الجيش الشعبي» تعمل في بيت لاهيا وبيت حانون.

تُكلف هذه الميليشيات بمراقبة السكان وقمع المعارضة واستهداف عناصر المقاومة نيابة عن إسرائيل.

فهذا النموذج يشبه «جيش لبنان الجنوبي»، الذي انهار بعد انسحاب إسرائيل عام 2000. ويشير التاريخ إلى أن مثل هذه الهياكل بالوكالة تأتي بنتائج عكسية في النهاية، ما يُغذي الاستياء ويعزز شرعية حركات المقاومة المسلحة.

تطور هذا الصدام الداخلي الإسرائيلي - الأميركي إلى منافسة شخصية بين نتنياهو وترامب.

رئيس الوزراء الإسرائيلي، المعروف بمكره السياسي، يختبر مدى قدرته على إعادة تفسير الاتفاق من دون إثارة مواجهة مباشرة مع واشنطن.

ترامب، الحريص على نسب الفضل لنفسه في إنهاء الحرب، عالق بين تأكيد سلطته وتجنب الخلاف العلني مع إسرائيل. أسلوب نتنياهو هو المماطلة والاستفزاز والتلاعب بشروط وقف النار حتى يتمكن من تقديم نسخته الخاصة من «الامتثال» مع إبقاء غزة تحت الاحتلال الفعلي.

وفي الأثناء، تتفاقم الأزمة الإنسانية، إذ تنام آلاف العائلات النازحة تحت خيام موقتة بجوار أنقاض منازلها، ومازالت أنظمة المياه والكهرباء والرعاية الصحية معطلة، في حين ينذر غياب إعادة الإعمار بمستقبل قاتم: شعب محكوم عليه بالتشرد داخل أرضه، من دون أي بوادر تعاف واضحة. يهدف رفض إسرائيل السماح بإزالة الأنقاض أو إعادة الإعمار إلى جعل غزة غير صالحة للسكن، ما يُثبط العودة، ويضمن بقاء أي وجود فلسطيني مستقبلي محدوداً ومجزأً ومعتمداً على السيطرة الإسرائيلية.

ستعتمد نتيجة هذا الصراع، على الصمود. أثبتت حكومة نتنياهو قدرتها على الصمود في وجه الضغوط الأميركية، معتمدةً على الدعم المحلي والسيطرة العسكرية لتحقيق أهدافها. في المقابل، يواجه ترامب حالةً سياسيةً ملحةً: فهو بحاجة إلى نتائج ملموسة قبل أن يستنتج العالم فشل وقف النار الذي توسط فيه.

في الوقت الحالي، يُشير وجود المبعوث الأميركي في إسرائيل إلى استمرار المشاركة الأميركية، لكن يبقى من غير المؤكد ما إذا كان هذا الوجود قادراً على إحداث تغيير حقيقي.

يبدو وقف النار طويل الأمد في غزة، مجرد وهم هش - حربٌ توقفت ولم تنتهِ. يُعيد نتنياهو صياغة شروطه للحفاظ على الهيمنة الإسرائيلية، بينما يسعى ترامب إلى إنقاذ صدقيته الدبلوماسية. بينهما تقع منطقة مُدمرة، وشعبٌ بلا مأوى، وهدنةٌ رهينة السياسة ولكن بتصميم فلسطيني على التمسك بالأرض مهما تعاظمت الصعوبات والمخاطر.