أصرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى ساعات قليلة قبل وصول دونالد ترامب إلى تل أبيب، على أن الحرب في غزة لن تتوقف. ثم، واقفاً في الكنيست أمام وزراء إسرائيل المتشددين، أعلن الرئيس الأميركي أنها توقفت - والتقى قادة من العالم في مصر لإضفاء الطابع الرسمي على وقف النار. كانت الرسالة جلية: لم يعد في إمكان نتنياهو عرقلة السلام من دون التعرض للإذلال العلني.
اللافت أنه في مواجهة وزراء تعهدوا، قبل يوم واحد فقط، مواصلة الحرب، فرض ترامب تراجعاً مفاجئاً لا يستطيع أحد غيره تدبيره. لم يأتِ إلى القدس لمجرد إلقاء كلمة، بل لفرض الاتفاق الذي تم التوصل إليه بالفعل، تاركاً نتنياهو أمام خيار واحد: الامتثال.
وحمل ترامب هذا المشهد إلى شرم الشيخ، جامعاً رؤساء دول وحكومات من الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا ليشهدوا ويوقعوا على وقف الحرب. مثّلت المرحلة الأولى - وقف الأعمال العدائية وتبادل الأسرى - الأرضية الوحيدة التي يمكن للطرفين الاتفاق عليها. لكن المراحل التالية مليئة بالتعقيدات وأشبه بمسار من الرمال المتحركة، والشروط الغامضة، وجداول زمنية غير محددة، حيث يختبئ الشيطان في كل نقطة.
إعلان ترامب ورسائله وقمته
كان وصول ترامب إلى إسرائيل، مدروساً. دخل الكنيست، وخاطب المشرّعين والوزراء، وأشاد بقيادة نتنياهو في زمن الحرب، ثم أصدر إعلاناً شاملاً: انتهت الحرب. كان ذلك تراجعاً جريئاً عن موقف الوزراء أنفسهم الذين واجههم قبل ساعات فقط، والذين أكدوا علناً نيتهم في مواصلة الصراع.
كانت الرمزية أهم من المنطق. بإعلانه انتصار الحرب في البرلمان الإسرائيلي، أجبر ترامب نتنياهو على اتخاذ موقفه أمام حلفائه المتشددين والعالم.
لقد أصبح واضحاً أنه إذا تجرأ نتنياهو على استئناف الأعمال العدائية، فإنه لن يتحدى ائتلافه المحلي فحسب، بل سيتحدى إجماعاً عالمياً. كما طلب ترامب من الرئيس إسحاق هيرتسوغ - الذي كان حاضراً آنذاك - العفو عن نتنياهو من تهم الفساد المستمرة، متذرعاً بسلطة الرئيس. وقد تداخلت هذه الخطوة مع الدبلوماسية والسياسة الداخلية والعدالة الإسرائيلية في لحظة دراماتيكية واحدة.
ومن إسرائيل، طار ترامب إلى مصر، حيث اجتمع العديد من قادة العالم في 13 أكتوبر 2025 في قمة شرم الشيخ للسلام لإضفاء الطابع الرسمي على وقف النار في غزة. واستضافت القمة وفوداً من نحو 27 دولة، تمثل قادة من الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا والمنظمات الدولية.
وشملت قائمة الضيوف إيمانويل ماكرون، رجب طيب أردوغان، كير ستارمر، فريدريش ميرتس، بيدرو سانشيز، محمود عباس، أنطونيو غوتيريش، أنطونيو كوستا وأحمد أبوالغيط. وكان من اللافت غياب الممثلين الرسميين لـ«حماس» وإسرائيل نفسها.
قبل نتنياهو الدعوة في البداية لكنه أعلن لاحقاً أنه لن يحضر، مشيراً إلى تعارض مع عطلة يهودية وضغوط من بعض المشاركين، الذين رفضوا حضوره.
في القمة، وقّع ترامب والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والرئيس التركي أردوغان - وليس إسرائيل و«حماس» المعنيتين - إعلان ترامب للسلام الدائم والازدهار - وهي وثيقة رمزية تحدد الالتزامات بالحفاظ على وقف النار ودعم إعادة الإعمار وتثبيط الصراع في المستقبل.
من خلال جمع هذا العدد الكبير من القادة في مكان واحد، رسّخ ترامب وقف النار في هيكل دبلوماسي عالمي، ما جعل من الصعب على نتنياهو ووزرائه المتطرفين عكس مسارهم من دون إثارة رد فعل دولي عنيف.
أهداف إسرائيل غير المحققة
على الرغم من حجم الدمار، فشلت إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها العسكرية أو السياسية المعلنة في غزة. كانت ظروف هذه الحرب المدمرة غير مسبوقة - ومع ذلك، وحتى مع هذه الشدة، فشلت إسرائيل في تطهير غزة عرقياً أو تغيير واقعها الديموغرافي.
لم تقض على «حماس» أو قيادتها؛ لم تتمكن من إنقاذ أسراها بالقوة؛ وفشلت في تفكيك البنية التحتية العسكرية للحركة أو تنصيب سلطة حاكمة جديدة في القطاع.
وبعد أشهر من القصف، مازالت إسرائيل تسيطر على نصف غزة فقط وتواجه مقاومة مسلحة متجددة في المناطق التي زعمت أنها «طهرتها».
وبدلاً من ذلك، كشفت الحملة، المصممة لاستعادة الردع، عن حدود إسرائيل: قوة نيران ساحقة، مدعومة بالكامل من الولايات المتحدة، ولكنها قللت من القدرة الإستراتيجية.
وعلى الصعيد الدولي، أدى الهجوم إلى تعميق عزلة إسرائيل، وتآكل شرعيتها الأخلاقية، وتوحيد الرأي العام العالمي ضدها. وانتهى ما وعد به نتنياهو باعتباره نصراً حاسماً إلى طريق مسدود سياسي وعسكري - وهو الفشل ذاته الذي أجبر ترامب على التدخل، لكن وسط رفض العديد من القادة العرب مقابلة نتنياهو، وفشل ترامب نفسه في إحضاره إلى شرم الشيخ.
لماذا تدخل ترامب؟
صمد نتنياهو سياسياً لفترة طويلة بتأخير الاتفاقيات، وإلقاء اللوم على الآخرين، وإبقاء خياراته مفتوحة. لكن هذه المرة، دمرت الحرب غزة لدرجة أن الرأي العام العالمي - وحتى المؤسسات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة - بدأ يصف أفعال إسرائيل بالإبادة الجماعية.
تضررت سمعة إسرائيل، ومعها سمعة نتنياهو. لذا وفّر تدخل ترامب طوق نجاة لنتنياهو. بتصويره نفسه مهندس السلام، لذا وفّر له مخرجاً - إنقاذاً سياسياً متخفياً في صورة دبلوماسية. لم يعد لدى اتلاف نتنياهو، تحت ضغط شركائه من اليمين المتطرف، أي حجة مقنعة ضد أي اتفاق بمجرد إقراره من قادة العالم. أجبر وقف النار الذي دبّره ترامب بعناية نتنياهو على اتخاذ موقف محرج: إما المقاومة ومواجهة العزلة الدولية والعقوبات المحتملة،وإما الامتثال والبقاء سياسياً.
كما ذكّر ترامب، نتنياهو، علناً وسراً، بأن المجهود الحربي الإسرائيلي اعتمد كلياً على الأسلحة الأميركية. وقال «كان يدعو إلى أنواع مختلفة من الأسلحة طوال الوقت»، في تصريح كشف عن حجم التواطؤ الأميركي.
كانت الرسالة جلية: إذا خالفت إسرائيل وقف النار، فسيُقطع سيل الأسلحة الذي دعم حملتها. كان هذا اعترافاً ضمنياً من ترامب نفسه بشراكة واشنطن في تدمير غزة، وهي حرب قتلت وجرحت أكثر من عشرة في المئة من سكان القطاع. تم تزويد إسرائيل بالقنابل التي أُمطرت على المدنيين وبسخاء ومن دون قيود، ما أتاح الدمار الذي يسعى ترامب الآن إلى إنهائه.
الهيكل الهش للصفقة
لم تكن الصفقة التي توسط فيها ترامب سوى المرحلة الأولى. فقد أعطت الأولوية لإطلاق سراح الرهائن والسجناء - وهو نصر رمزي وسياسي - لكنها تركت الانسحاب وإعادة الإعمار والحوكمة ونزع السلاح دون تحديد.
قبل نتنياهو المرحلة الأولى، لكن الطريق أمامه مليئة بالأفخاخ. فهو ينوي استئناف العمليات ضد «حماس»، وتقويض البنود التي لا تروق له، ومنع تشكيل سلطة فلسطينية قادرة على حكم غزة. ومن غير المرجح أن تُلقي فصائل المقاومة أسلحتها بالكامل؛ فقد تُسلّم أسلحتها الثقيلة كالصواريخ مع احتفاظها بالأسلحة الصغيرة، مما يضمن بقاء إسرائيل عُرضةً لهجمات مُتجددة.
والنتيجة هي تقسيمٌ فعلي: يُسيطر الفلسطينيون على أجزاء من غزة بينما تُسيطر إسرائيل على البقية ما يعني أن كل جانب سيُؤكد سلطته على منطقته، وسيستخدم كلٌّ منهما الضغط للتأثير على الآخر.
حسابات نتنياهو السياسية
على الصعيد الداخلي، يواجه نتنياهو مهمةً مُعقدةً لتحقيق التوازن. إذا عفا عنه الرئيس هيرتسوغ، فسيُزيل ذلك التهديد القانوني، لكنه لن يُزيل التكلفة السياسية لإخفاقات السابع من أكتوبر. سيتساءل النقاد عن سبب عدم تفاوض إسرائيل على تبادل أسرى في وقتٍ سابق، في حين كان من المُحتمل أن ينجو المزيد من الرهائن؟
إذا تراجعت شعبيته، فقد يُحل نتنياهو حكومته ويدعو إلى انتخاباتٍ مُبكرة - على الأرجح قبل أكتوبر 2026 - لاستعادة الشرعية. ومن غير المُرجح أن يلتزم وزراء اليمين المُتطرف في ائتلافه، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بوقف النار، ولكن ليس لديهم أي نية للتنازل حيال قيام دولة فلسطينية أو السماح بسلام دائم.
تُقيّد صفقة ترامب هامشَ نتنياهو للمناورة، ولكن يبقى أن نرى ما إذا كان سيلتزم بها أم سيُخرّبها. نصّب ترامب نفسه ضامناً لوقف النار. خلال السنوات الثلاث الباقية من ولايته، سيُقيّد نتنياهو: لا يمكنه خرق الاتفاق من دون إثارة عواقب دبلوماسية. لكن إنهاء الحرب في غزة لا يعني حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، الذي مازال قائماً.
يبقى مبعوثا ترامب، جاريد كوشنر وستيف ويتكوف، في إسرائيل لمراقبة نتنياهو وضمان عدم استئنافه للأعمال العدائية بهدوء. يُبقي وجودهما الضغط قائماً، لكن لا يمكن أن يكون دائماً. سيختبر نتنياهو، المعروف بإعادة التفاوض على الاتفاقيات وإعادة تفسيرها، كل هامش. ثقة الجمهور به ضعيفة - بين الإسرائيليين وقادة العالم ووزرائه. إذا عرقل الصفقة، فإنه يُخاطر بالانفصال عن أجندة واشنطن وفقدان ما تبقى من شرعية إسرائيل.
هدف ترامب هو استعادة صورة إسرائيل العالمية إذ يعتقد الرئيس الأميركي أن وقف الحرب يُساعد إسرائيل على استعادة سمعتها، بينما يُتيح لرئيس الوزراء الإسرائيلي فرصةً للحفاظ على السلطة. ويكمن رهان ترامب على أن نتنياهو سيقبل بالاتفاق. ولكن إذا ما انحرف، فقد يواجه الرئيس الأميركي معضلة مواجهة الحليف الذي دافع عنه يوماً ما.
الضفة الغربية... الغائبة
كانت الضفة الغربية غائبةً في شكل ملحوظ عن خطاب ترامب. لم تعد الولايات المتحدة تعترف بحل الدولتين - وهو الإطار ذاته الذي وُضع بموجب اتفاقيات أوسلو في التسعينات، والتي رعتها واشنطن نفسها لضمان حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة الدولة. وبإغفاله أي إشارة إليه، دفن ترامب فعلياً ما تبقى من تلك الرؤية الدبلوماسية. هذا الإغفال يشي بأن الصراع في فلسطين لن ينتهي؛ بل سيتجدد، عاجلاً أم آجلاً.
خلال عامين من الحرب، شيدت إسرائيل 22 مستوطنة جديدة على الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية، ما زاد من محو الأساس الإقليمي لدولة فلسطينية قابلة للحياة وتفكيك آخر بقايا أوسلو. وتالياً فإن ما تبقى الآن ليس السلام، بل حالة من عدم الاستقرار الدائم - حالة اللاسلام التي تضمن استمرار دائرة العنف.
الجوهر غير المحلول
يُعدّ وقف النار الذي أعلنه ترامب مسرحاً سياسياً للسيطرة. فقد كرّس هدنة علنية، ووضع نتنياهو تحت المجهر، وسمح للرئيس الأميركي بإعلان نصر دبلوماسي. لكنه لم يحل القضية الفلسطينية. ينطبق وقف النار على غزة، وليس على الاحتلال الأوسع، أو الحصار، أو قضية تقرير المصير. يعمل الجانبان الآن في إطار ترتيب محفوف بالمخاطر: تسيطر إسرائيل على ما يقارب من نصف غزة، ومازالت المقاومة الفلسطينية مسلحة في النصف الآخر، وكلاهما يختبر الحدود يومياً.
لا يستطيع ترامب احتجاز مبعوثيه في تل أبيب إلى أجل غير مسمى، ولا يمكن الوثوق بنتنياهو لضبط نفسه. مازال التحالف الأميركي - الإسرائيلي راسخاً، لكن تدخل ترامب الشخصي أبرز تحولاً جوهرياً: فالدعم غير المشروط له حدود عندما تصبح تكاليف سمعة أميركا باهظة للغاية.
تمثلت إستراتيجية ترامب في إنقاذ نتنياهو وإسرائيل من العزلة التامة عبر وقف حرب أودت بحياة أكثر من 76 ألف شخص، 82 في المئة منهم مدنيون، بمن فيهم أكثر من 20 ألف طفل. لقد أوقف الدمار بثمن الغموض: وقف نار من دون تسوية، وسلام من دون مصالحة... وقّع قادة العالم المجتمعون في شرم الشيخ على نهاية حرب، لا بداية حل.