عندما أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس، أن بلاده «تفتح أبواب الجحيم»... لم تكن هذه العبارة من باب المُبالغة، بل وصفاً مباشراً للسياسة المتبعة.

فقد شنّت الطائرات الإسرائيلية موجاتٍ مُتواصلة من الغارات الجوية على مدينة غزة، مُستهدفةً حيّي الرمال وتل الهوى، في قلب المدينة. وفي غضون أسبوع واحد، دُمّر أكثر من 500 مبنى، بما في ذلك أكثر من 13 برجاً شاهقاً كانت تؤوي مئات العائلات.

كما أُحرقت نحو 600 خيمة للنازحين، وقُصف ما لا يقل عن 20 مركزاً للاجئين. وقد أدّى هذا الدمار إلى تشريد أكثر من 50 ألف مدني بين عشية وضحاها، أجبروا على التشتت من دون أي مكان آمن يلجأون إليه، حاملين فقط ما استطاعوا إنقاذه في الدقائق القليلة التي سبقت سقوط القنابل الأميركية الصنع.

تروي هذه الإحصاءات قصةً تتجنبها البيانات الرسمية الإسرائيلية بحذر. فخلال الشهر الماضي، لم يُعلن أي ادعاء موثوق بتفكيك شبكات «حماس»، أو الاستيلاء على منشآت تحت الأرض، أو أسر كبار القادة داخل مدينة غزة. بل إن ما يُسلط عليه الجيش الضوء هو ما يُسمى «تحذيرات الإخلاء» - وهي دعوات أو منشورات تُعطي العائلات دقائق فقط للفرار قبل أن تُسقط القنابل على منازلهم. وتُقصف الأبراج الشاهقة والمدارس وأمكنة اللجوء مراراً وتكراراً دون حجج عسكرية.

أما بالنسبة إلى النازحين، فإن هذه التحذيرات لا معنى لها. ومع انعدام أي مكان آمن يلجأون إليه، تُجبر العائلات على الاختيار بين المخاطرة بالموت تحت القصف أو الفرار إلى مخيمات مكتظة حيث يتفشى الجوع والمرض. وتُمحى أحياء بأكملها، ومعها الشعور الهش بالموت البطيء لمن لا تصبه القنابل. فالاستهداف المتعمد للنسيج الحضري ليس أضراراً جانبية، بل هو جهد مُدبّر لجعل شمال غزة غير صالح للسكن، وهو ما يُعادل تطهيراً عرقياً يُمارس باستخدام المتفجرات والتهجير القسري.

لقد تغيرت مبررات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو العلنية لإطالة أمد الحرب مراراً بحسب ما تقتضيه الظروف. أولاً، كان قائد «حماس» في غزة يحيى السنوار، العقبة أمام السلام. بعد مقتله، تحول التركيز إلى رئيس الجناح العسكري محمد الضيف. وبعدها أعلن نتنياهو أن الزعيم السياسي للحركة إسماعيل هنية، يقف في طريقه. تم استهداف قادة «حماس» واغتيالهم واحداً تلو الآخر. ومع ذلك، فإن كل عملية قتل أدت فقط إلى تحديد كبش فداء جديد.

ويكشف النمط أن العقبة الحقيقية ليست قيادة «حماس» ولكن نتنياهو نفسه، الذي لا يرغب في إبرام أي صفقة بغض النظر عن رد «حماس»، لأن إنهاء الحرب من شأنه أن يقوض بقاءه السياسي.

لقد كشفت الدبلوماسية الأميركية عن غير قصد عن دور إسرائيل كمخرب. عندما وصل وزير الخارجية ماركو روبيو إلى إسرائيل، لم يكن تركيزه منصباً على التوسط لوقف النار، بل على ضمان إطلاق سراح الرهائن، والتأكيد على أن «علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل لن تتغير مهما حدث في قطر».

كانت محطته الأولى تل أبيب، وليس الدوحة، مع أن قطر هي الوسيط الرئيسي ذو النفوذ على «حماس». كانت الرمزية واضحة: واشنطن تعلم أن حق النقض الحاسم بيد نتنياهو، وليس «حماس» أو حلفائها.

فكلما اقتربت المفاوضات من تحقيق اختراق، تعمل إسرائيل على إفشالها. وكان أبرز مثال على ذلك العدوان على الدوحة، الذي يُعتبر أبشع عمل تخريبي حتى الآن. قصفت طائرات إسرائيلية مبنىً كان يجتمع فيه قادة «حماس»، بحسب التقارير، لمناقشة خطة مدعومة من الولايات المتحدة أعلنها الرئيس دونالد ترامب بثقة.

لم تُدمّر الضربة المبنى فحسب، بل دمرت المحادثات نفسها أيضاً. بالنسبة إلى نتنياهو، كان الحساب بسيطاً: من الأفضل توسيع نطاق الحرب بدلاً من السماح بأي تسوية دبلوماسية قد تُخفّف الضغط للبقاء في السلطة.

يُقرّ المعلقون الإسرائيليون أنفسهم بهذه الدورة المدمرة. أشارت الصحافة العبرية إلى أنه كلما ظهر احتمال وقف النار، يأمر نتنياهو باغتيال شخصية بارزة أو يضرب عاصمة أجنبية. الهدف ليس القتل فحسب، بل فرض حقائق سياسية على الأرض تجعل المفاوضات مستحيلة. ما يظهر هو صورة زعيم مدمن على الصراع.

فبالنسبة إليه لم تعد الحرب وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، بل غاية في حد ذاتها. لقد شجعه الدعم الأميركي غير المحدود على التصرف دون رادع، محصناً من التكاليف الديبلوماسية لضربه لبنان وسورية واليمن وإيران، وأخيراً قطر. ورغم أن كل عملية تعمّق عزلة إسرائيل الدولية، فإن نتنياهو يبدو غير مبالٍ.

داخل إسرائيل، يدرك العديد من أعضاء النخبة، الخطر. إسرائيل كانت بارعة في لعب دور الضحية، أصبحت الآن، على حد تعبير بعض المعلقين، غادرة وغير جديرة بالثقة. يتزايد تشكك الوسطاء والقوى الإقليمية في أي صفقة وعدم نواياها بالوفاء بالوعد والاتفاقات. حتى عندما تُقدّم واشنطن ضمانات، يحتفظ نتنياهو بحق القصف أولاً ثم التفاوض لاحقاً. هناك هدفان أوسع نطاقاً يُحرّكان هذه الحملة.

التطهير العرقي

الأول، هو التطهير العرقي في غزة، من خلال تدمير البنية التحتية، وجعل الأحياء غير صالحة للسكن، وإجبار المدنيين على الفرار، تُهندّس إسرائيل تغييراً ديموغرافياً.

وقد اشتكى نتنياهو علناً من أن 10 في المئة فقط من سكان مدينة غزة، البالغ عددهم مليون نسمة، قد أُخلوا المدينة. وهو يعتبر هذا فشلاً، لأنه يُعقّد أي عملية برية من خلال زيادة خطر وقوع إصابات في صفوف الإسرائيليين. وتالياً، يعمل القصف كآلية للهجرة القسرية.

إعادة تشكيل الشرق الأوسط

أما الهدف الثاني فهو إعادة تشكيل الشرق الأوسط من خلال «السلام بالقوة». فمن خلال شنّ حروب على جبهات عدة، تسعى إسرائيل إلى إعادة رسم التحالفات والحدود. ومع ذلك، فإن هذه الإستراتيجية تُخاطر بنتائج عكسية. فبدلاً من فرض الاستقرار، تُؤجج إسرائيل الاستقطاب الإقليمي وتُقوّي حركات المقاومة.

إن توقيت جرائم نتنياهو العسكرية لا ينفصل عن جدول أعماله السياسي الشخصي. فمع بقاء عام واحد في منصبه، لديه حافز قوي للحفاظ على حالة الطوارئ التي تؤجل المساءلة عن إخفاقاته. ومازالت صدمة السابع من أكتوبر 2023، عندما اخترق مقاتلو «حماس» الدفاعات الإسرائيلية، جرحاً لم تلتئم حكومته بعد. وعلى الرغم من العمليات العسكرية الواسعة التي شنّها منذ ذلك الحين، فقد فشل في استعادة الشعور بالأمن لدى المواطنين الإسرائيليين.

وبدلاً من مواجهة هذا الفشل، يعرض نتنياهو الحرب كوسيلة إلهاء. ومن خلال تحويل التركيز باستمرار - أولاً إلى غزة، ثم إلى لبنان، ثم إلى قطر - يضمن نتنياهو أن يدور النقاش حول الأعداء الخارجيين بدلاً من المساءلة الداخلية.

بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن العواقب كارثية: عشرات الآلاف من القتلى، ومئات الآلاف من الجرحى، ومجتمع بأكمله مشرد. وبالنسبة إلى إسرائيل، فإن التكاليف طويلة الأجل تتزايد أيضاً. وعلى الصعيد الدولي، أصبحت البلاد أكثر عزلة من أي وقت مضى في تاريخها. لقد أفسحت الادعاءات السابقة بالديموقراطية المحاصرة المجال لتصورات عن كيان منبوذ مدمن على العنف. حتى داخل الجاليات اليهودية في الخارج، يتزايد القلق. فالتوافق التلقائي بين السياسة الأميركية وأهداف الحرب الإسرائيلية يثير انقسامات عميقة، لا سيما مع انتشار صور المعاناة الجماعية للمدنيين. إن استعداد نتنياهو للتضحية بسمعة إسرائيل الدولية من أجل بقائه السياسي يترك ندوباً ستستمر بعد رئاسته للوزراء.

لعل أوضح مؤشر على أولويات نتنياهو هو معاملته للرهائن الإسرائيليين. فقد تظاهرت عائلات الأسرى لدى «حماس» مراراً في تل أبيب والقدس، مطالبةً الحكومة بجعل إطلاقهم أولوية. ومع ذلك، تُخرب مفاوضات التبادل مرة بعد أخرى. إذ يحسب نتنياهو أن تأمين حريتهم سيزيل آخر ذريعة لإطالة أمد الحرب. أرواح الرهائن، في هذه الحسابات، قابلة للتضحية بها. وقد صدم هذا المنطق الوحشي حتى المراقبين الإسرائيليين المخضرمين. من هنا يبدو أن حكومة تفتخر بالدفاع عن مواطنيها تُقدّر الحرب الدائمة أكثر من العودة الآمنة لشعبها.

في ظل هذه الديناميكية، تُصبح الآليات الدبلوماسية التقليدية غير كافية. لا يمكن لأي خطة سلام أن تنجح إذا اعتمدت فقط على حسن نيات نتنياهو أو على ضمانات أميركية يمكنه تجاهلها. سيتعين على الجهات الفاعلة الإقليمية والمؤسسات الدولية تصميم أشكال جديدة من التنفيذ تتجاوز الالتزامات الشفوية. وإلا، فإن أي اتفاق سيكون عرضة للضربة الإسرائيلية التالية. وتزداد في هذا الوقت الحاجة إلى ضمان آلية المساعدات مع تفاقم الكارثة الإنسانية.

غزة على شفا المجاعة، ونظامها الصحي في حالة خراب، وسكانها يعانون من صدمة القصف المتواصل، وتالياً فإن كل تأخير يكلف المزيد من الأرواح ويعزز اليأس.

يتغذى إدمان نتنياهو على الحرب من الدعم الأميركي غير المشروط. لقد غيّر صورة إسرائيل: فبعد أن كانت تُصوّر نفسها على أنها ديمقراطية وحصن منيع، يُنظر إليها الآن على أنها متهورة وغير جديرة بالثقة، ومهووسة بالحلول العسكرية والقتل الجماعي الذي يُبث على الهواء مباشرة للعالم. بدأ الإسرائيليون أنفسهم يشعرون بالتكاليف، إذ يُعاملون في شكل متزايد على أنهم غير مرحب بهم في الخارج، ويُجبرون على العيش في ظل حروب لا نهاية لها. بالنسبة إلى الفلسطينيين، المعاناة أكبر بكثير، لكن الديناميكية الكامنة هي نفسها: قيادة تتمسك بالسلطة بتأجيج الصراع بدلاً من حلّها.

الحرب في غزة لا تتعلق فقط بالأرض أو الأيديولوجيا؛ بل تتعلق باستراتيجية بقاء رجلٍ واحدٍ يقتصر أفقُه على مدة ولايته... إن المأساة هي أن منطقةً بأكملها تدفع الثمن.