ركّز الجيش الإسرائيلي قواته وأجهزته الاستخبارية على مدينة غزة كجزء من هجومه البري الثاني، (عملية «عربات جدعون 2»)، بهدف معلن هو احتلال المدينة والقضاء على ما تبقى من البنية التحتية العسكرية لـ«حماس»، وغير المعلن، الا وهو تهجير الفلسطنيين بعد تدمير المدينة.

لأسابيع، أصرّ المسؤولون الإسرائيليون على أن ساحة المعركة الحضرية مُحاطة بشبكة منيعة من الطائرات من دون طيار وطائرات الاستطلاع والأقمار الاصطناعية وأجهزة الاستشعار الأرضية.

ووصفوا مدينة غزة بأنها مسرح عمليات تحت رقابة دائمة، حيث «لا يمكن حتى لفأر أن يتحرك من دون أن يُرى».

ومع ذلك، وفي خضم هذا الاستعراض الجارف للقوة، نفذت «حماس» واحدة من أجرأ العمليات النفسية في الحرب، وهي العملية المتمثلة باقتياد أحد الرهائن الإسرائيليين عبر مدينة غزة في وضح النهار، وتصوير رحلته أمام مبانٍ واضحة المعالم، ونشر اللقطات ليشاهدها العالم.

مدينة تحت المراقبة على مدار الساعة

تُعدّ شبكة المراقبة فوق غزة غير مسبوقة، إذ تُمثّل البنية الكاملة للاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR).

صُمّمت ISR، من حيث المبدأ، لتزويد القادة بصورة آنية ومتواصلة لساحة المعركة من خلال دمج مسارات جمع متعددة.

تدور الطائرات الإسرائيلية من دون طيار باستمرار، مُزوّدةً بفيديوهات كاملة الحركة وقدرات مراقبة مستمرة.

وتحلق طائرات الاستطلاع الأميركية والبريطانية قبالة الساحل، جامعةً إشارات استخباراتية (SIGINT) واستخبارات صورية (IMINT) من ارتفاعات عالية.

وتُضيف الأقمار الاصطناعية والأدوات السيبرانية طبقات إضافية من خلال اعتراض الاتصالات، وتحديد الموقع الجغرافي للإرسال، ورسم خرائط للتوقيعات الإلكترونية، والربط مع الصور التجارية.

على الأرض، يعتمد الجيش الإسرائيلي على المخبرين والقوات الخاصة، واستجواب الأسرى من سكان غزة لتعزيز شبكات الاستخبارات البشرية (HUMINT).

من المفترض أن تتقارب هذه المسارات داخل خلايا اندماج، حيث يُدمج محللون من مختلف التخصصات البيانات الخام في معلومات استخباراتية قابلة للتنفيذ.

يُتوقع من القادة بعد ذلك «إعادة توزيع مهام» أصول الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع في شكل ديناميكي، ما يُسدّ فجوات التغطية. نظرياً، يُقارب هذا «الوعي الظرفي الكامل» ما يُمكن أن تُحققه أي ساحة معركة حديثة.

ومع ذلك، فقد فشل في اكتشاف أو منع أو تعطيل «حماس» من استعراض أحد أثمن أصول إسرائيل - أسير حي - عبر المدينة التي تدّعي إسرائيل السيطرة عليها.

الجرأة... كرسالة

لم تكن هذه حيلة عشوائية. بل كانت عملية مُدبّرة بعناية ذات أهداف عدة. لقد أشارت إلى إسرائيل وحلفائها إلى أن «حماس» تحتفظ بحرية الحركة داخل مدينة غزة، على الرغم من الادعاءات الرسمية بـ «التطويق» و «التحييد». من خلال التصوير مقابل معالم واضحة، سخرت «حماس» عمداً من دولة المراقبة.

كما ضربت في صميم مصداقية الاستخبارات الإسرائيلية والغربية. يفخر «الموساد» و«الشين بيت» والاستخبارات البريطانية (SIS) ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، مع دمج الاستخبارات الإشارية والاستخبارية المباشرة والاستخبارات البشرية في صورة واحدة متكاملة.

ومع ذلك، فشل هذا الدمج هنا. تحركت مركبة واحدة تحمل رهينة عبر ما كان من المفترض أن يكون ساحة معركة مغلقة، كاشفةً عن ثغرات في الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وهشاشة الاعتماد المفرط على الاستخبارات العسكرية.

وأخيراً، كان الأمر بمثابة تمرين في الحرب المعرفية. لم يكن الهدف نقل أسير فحسب، بل التلاعب بالتصورات: لإظهار الفلسطينيين أن المقاومة مازالت تعمل تحت نيران العدو، وتذكير الإسرائيليين بأن شهوراً من القصف لم تُحرر رهينة واحدة.

صفعة على وجه الاستخبارات

بالنسبة إلى أجهزة الاستخبارات، فإن الإذلال عميق. لا تعتمد صدقيتهم فقط على قدرتهم على جمع المعلومات، بل على إظهار معرفتهم المطلقة - فكرة أن «لا شيء يغيب عن أعيننا».

في العقيدة، هذه هي هالة الهيمنة التي تدعم عملية صنع القرار السياسي. بنقل رهينة على مرأى من الجميع، حطمت «حماس» تلك الهالة.

لقد أثبتت أنه حتى في ظل تشبع المراقبة، توجد نقاط ضعف وثغرات ونقاط ضعف نظامية.

من الناحية النظرية، كانت هذه حالة نموذجية للإنكار والخداع (D&D): حرمان الخصوم من الوصول إلى الحقيقة مع خداعهم للاعتقاد بأنهم يسيطرون.

أصداء إخفاقات الماضي

تُذكّر جرأة خطوة «حماس» بكوارث استخباراتية سابقة. في عام 2001، غرقت الاستخبارات الأميركية في تحذيرات SIGINT، لكنها فشلت في منع هجمات 11 سبتمبر، وهو فشل تحليلي كارثي.

في عام 2003، عكس إصرار الولايات المتحدة على وجود أسلحة دمار شامل في العراق انهياراً في التحقق من صحة المعلومات الاستخباراتية، حيث أخطأت في اعتبار الضغط السياسي دليلاً مؤكداً. في عام 2006، خلال حرب إسرائيل مع «حزب الله»، استمرت حملة الصواريخ على الرغم من عمليات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الإسرائيلية المكثفة، ما كشف عن حدود التكنولوجيا في مواجهة تكتيكات حرب العصابات المنضبطة.

تنضم غزة الآن إلى هذه القائمة. كان الهدف من الهجوم الثاني على المدينة إثبات التفوق. بدلاً من ذلك، سلّط فيديو «حماس» للرهائن الضوء على حدود التكنولوجيا واستمرار إستراتيجيات الإنكار غير المتكافئة.

التداعيات السياسية

بالنسبة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يُعدّ الفيديو مدمراً سياسياً. برّرت حكومته الحرب على أساس القضاء على «حماس» وإنقاذ الرهائن. تُقوّض اللقطات كلا الادعاءين: فالرهائن مازالوا على قيد الحياة، مرئيين، ومتحركين، مما يُثبت أن الحرب قد فشلت في تحقيق أهدافها المركزية.

يواجه نتنياهو مفارقة إستراتيجية. فالتوغل في عمق مدينة غزة يزيد من احتمال مقتل الرهائن - وهو فشل استخباراتي في إدارة العواقب.

لكن التردد يسمح لـ«حماس» بمواصلة حملتها النفسية، مما يُلهب مشاعر العائلات الإسرائيلية ويكشف عن ضعف نتنياهو.

حرب نفسية آنية

فيديو الرهائن ليس مجرد دعاية؛ إنه عمليات معلوماتية تُنفَّذ آنياً. إنه يُقوِّض الروح المعنوية الإسرائيلية بإظهاره أنه حتى مع هيمنة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، لا يستطيع الجيش السيطرة على الأرض.

كما يُشجِّع الفلسطينيين بإظهاره أن المقاومة قادرة على إذلال إسرائيل تحت نيران المدفعية المتواصلة.

الرمزية مهمة... أفق غزة مُشوَّه بأبراج مُدمَّرة، وأحياء بأكملها حُوِّلت إلى أنقاض بفعل القنابل الدقيقة. على هذه الخلفية، وضعت «حماس» رهينة حياً: دليلاً على البقاء والتحدي والقدرة على التصرف تحت حُرمانها من المراقبة. كانت الرسالة جلية: «قد تُدمِّرون مدينتنا، لكنكم لن تستطيعوا كسر قدرتنا على القتال ونمعن بإذلال جهازكم الاستخباراتي».

دروس في عقيدة الاستخبارات

من الناحية العقائدية، تكشف خطوة «حماس» هشاشة عقيدة التشبع بالمراقبة. لقد دُحِض الاعتقاد بأن هيمنة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الشاملة - الطائرات من دون طيار، والأقمار الاصطناعية، واستخبارات الإشارات - تضمن الهيمنة الظرفية.

تُسلّط هذه الحالة الضوء على ثلاثة إخفاقات تتحوّل إلى ضعف منهجي. أولاً، كان هناك اعتماد مُفرط على جمع المعلومات التقنية، مثل الاستخبارات الأمنية والاستخباراتية (IMINT) والاستخبارات الإشارية (SIGINT)، حيث استغلّت «حماس» فوضى غزة الحضرية لإخفاء تحركاتها.

ثانياً، كانت هناك فجوات في الاستخبارات البشرية (HUMINT)، حيث فشلت شبكات المُخبرين وعمليات الاستجواب في توفير حقائق ميدانية قابلة للتنفيذ. ثالثاً، كان هناك فشل في الدمج، حيث لم تُدمج معلومات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR) في شكل صحيح في صورة عملياتية دقيقة.

بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) والقيادة المركزية الأميركية (CENTCOM)، فإنّ الآثار المترتبة على ذلك مُقلقة. تُظهر غزة كيف يُمكن للجماعات غير الحكومية استغلال التضاريس الحضرية الكثيفة، والفوضى الكهرومغناطيسية، والغطاء المدني لتحييد تفوق الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR).

لطالما افترضت العقيدة الغربية أن هيمنة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR) تُعادل التفوق في اتخاذ القرار. وقد أثبتت «حماس» عكس ذلك: يُمكن أن يُولّد تشبع الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR) شعوراً زائفاً بالسيطرة، ما يُشجع على الثقة المُفرطة بينما يُناور الخصم في الخفاء.

تُؤكّد الحالة أيضاً على الحاجة إلى الفريق الأحمر - وهو مُمارسة مُحاكاة سلوك الخصم للكشف عن نقاط الضعف في جمع المعلومات وتحليلها. لو أن الاستخبارات الإسرائيلية أو الأميركية اختبروا افتراضاتها في شأن غزة بدقة، لربما توقعوا قدرة «حماس» على استغلال نقاط ضعف الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. لكن بدلاً من ذلك، وقعوا في فخ من صنع أيديهم، مدفوعين بثقة مفرطة بالتكنولوجيا.

سيطرة أم وهم؟

أُطلقت «عربات جدعون 2» لاحتلال مدينة غزة وإظهار الهيمنة الإسرائيلية. لكن «حماس»، بدلاً من ذلك، اقتادت رهينة على ممشى عبر شوارع زعمت إسرائيل السيطرة عليها، تاركةً أجهزة الاستخبارات في حيرة من أمرها والقادة السياسيين في حالة إهانة.

الدرس واضح. فالقوة النارية قد تُسوّي المباني بالأرض، وقد تُغرق الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع السماء، وقد تُرسم الأقمار الاصطناعية خرائط لكل شارع.

لكن الاستخبارات ليست مطلقة أبداً. فالسيطرة غالباً ما تكون وهماً. في غزة، أثبتت «حماس» أنه حتى أكثر أنظمة المراقبة تطوراً يمكن التفوق عليها بالذكاء - وأن مقطع فيديو واحد يمكن أن يُحقق تأثيراً إستراتيجياً أكبر من مئة غارة جوية.