يعتقد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير، أنه أنجز بالفعل المهمة الأولى الموكلة إليه، إذ صُممت عملية «عربات جدعون» العسكرية داخل شمال غزة وعلى حدود القطاع لتهيئة الظروف اللازمة لتمكين الحكومة من التفاوض من موقع القوة القصوى، وإنهاء الحرب، وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين.

ومع ذلك، وبينما سعى زامير إلى تعزيز هذه المكاسب، غيّر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مسار الأهداف فجأة. فقد أمر الجيش الآن بالشروع في مرحلة ثانية أكثر خطورة بكثير عنوانها احتلال مدينة غزة.

يرى زامير أن المخاطر جلية. فالحرب في المدن في غزة لا تشبه أي ساحة معركة واجهتها إسرائيل. فشوارع المدينة الضيقة وشبكات الأنفاق الشاسعة وسكانها المدنيون المحاصرون وانتشار مقاتلي المقاومة بالعمق، تحولها إلى مصيدة قاتلة لأي قوة تقليدية. ويقدم التاريخ تحذيرات صادمة. ففي عام 2002، وخلال عملية السور الواقي، تكبدت القوات الإسرائيلية خسائر غير متوقعة في جنين. وفي 2006، ألحقت مقاومة «حزب الله» في جنوب لبنان خسائر فادحة بالأرواح، وكشفت عن حدود التفوق العسكري الإسرائيلي في التضاريس الكثيفة.

والدروس المستفادة ليست تاريخية فحسب. فعلى مدار العامين الماضيين من القتال في غزة، تعثرت القوات الإسرائيلية مراراً وتكراراً في كمائن نصبتها مقاومة أثبتت انضباطها العالي وتطورها التكتيكي.

ولم تُظهر المجموعات المقاتلة من الفلسطينيين، الذين يعملون في تشكيلات مرنة، من خلايا هجومية صغيرة إلى وحدات منسقة أكبر، تصميماً شرساً فحسب، بل أظهرت أيضاً فهماً دقيقاً لأسلوب عمل الجيش الإسرائيلي.

وغالباً ما حولت التقدم الإسرائيلي إلى مناطق قتل مُعدّة بعناية، وجعلت التفوق التكنولوجي للجيش عبئاً عليه بدلاً من أن يكون درعاً.

ومن المرجح أن يُضخّم هجوم شامل على مدينة غزة هذه المخاطر على نطاق أوسع بكثير. وتُحذّر تقييمات الاستخبارات من أن «حماس» والفصائل الأخرى حوّلت المدينة إلى حصن: متاهة تحت الأرض من الأنفاق، وأحياء بأكملها مزروعة بالمتفجرات، ووحدات متنقلة متمركزة لقتال حضري مُستدام، وتالياً فإنه من شبه المؤكد أن أي تقدم بري سيأتي على حساب خسائر إسرائيلية فادحة - ومعها، احتمال وفاة الرهائن الذين مازالوا محتجزين داخل القطاع.

ويدرك زامير تماماً هذه المخاطر، مصمماً على ألا يكون كبش فداء وحيد لمقامرة ذات دوافع سياسية، فقد سرب عمداً سلسلة من التحذيرات، من خلال ضمان أن تكون تحفظاته معروفة، ليس فقط لمجلس الوزراء ولكن أيضاً للمجتمع الإسرائيلي، فإنه يشير إلى أن الجيش يُدفع إلى معركة لا يعتقد أنه يستطيع الفوز بها من دون خسائر فادحة.

حسابات الجنرالات وحقائق ساحة المعركة

وبذلك، رسم زامير خطاً واضحاً: حسابات الجنرالات، المبنية على حقائق ساحة المعركة، تتعارض تماماً مع حسابات رئيس الوزراء، المتجذرة في البقاء السياسي. ما يضعه نتنياهو كضرورة إستراتيجية، يعترف به رئيس أركان جيشه على أنه مقامرة متهورة سيدفع فيها الجنود والسجناء الإسرائيليون الثمن حتى يتمكن نتنياهو من الحفاظ على قبضته على السلطة.

الجيش الإسرائيلي لديه القوات جاهزة، ولكنه يفتقر إلى اليقين. ومازال أمر اقتحام مدينة غزة مُعلقاً بين حسابات الجنرالات وطموحات رئيس الوزراء.

أهداف نتنياهو المُتغيرة

اتسمت مسيرة نتنياهو السياسية الطويلة برفضه المُستمر لتحمل مسؤولية الإخفاقات. بدلاً من ذلك، دأب على إلقاء اللوم على قادة الجيش وأجهزة المخابرات وشركاء الائتلاف. وإدراكاً منه لهذا النمط، سرّب زامير سراً تفاصيل مناقشاته مع رئيس الوزراء ومجلس الوزراء الأمني، مُتأكداً من أن الجمهور يعلم أنه حذّر من المخاطر التي ينطوي عليها التوجيه الجديد.

فبينما كانت المهمة الأصلية تهدف إلى تعزيز موقف إسرائيل في المفاوضات لإطلاق سراح ما يقارب من عشرين أسيراً حياً، يبدو نتنياهو الآن أقل اهتماماً بمصيرهم. بدلاً من ذلك، يُحركه مزيج من الالتزام الأيديولوجي والضرورة السياسية. فائتلافه الهشّ لن يتحد إلا في حال استمرت الحرب، وأي توقف يُهدد بتفكك حكومته ويعرضه لانهيار سياسي داخلي. ولقد أوضح نتنياهو رؤيته الإستراتيجية طويلة المدى. أعلن قائلاً: «قبل خمسة وعشرين عاماً، وعدتُ بمنع قيام دولة فلسطينية، وهذا ما نفعله بالضبط». بالنسبة له، فإن منع السيادة الفلسطينية ليس نتيجة ثانوية للحرب، بل هو مبررها النهائي.

ظل مدينة غزة

أصبحت مدينة غزة، التي كانت يوماً ما القلب النابض للحياة الفلسطينية في القطاع، الاختبار النهائي لإستراتيجية إسرائيل. فالسيطرة عليها لن تُكلف تل أبيب ثمناً بشرياً باهظاً فحسب، بل ستُلقي أيضاً على عاتق إسرائيل عبئاً هائلاً يتمثل في حكم مركز حضري مُدمّر والسيطرة عليه.

حتى لو تمكن الجيش من الاستيلاء على المدينة عسكرياً، فإن الاحتفاظ بها سيتطلب احتلالاً طويل الأمد، وهو سيناريو محفوف بمخاطر الهيمنة الإسرائيلية.

كمائن... وإدانة

لقد فاجأ صمود «حماس» خلال الأشهر الماضية الكثيرين في إسرائيل. فعلى الرغم من القصف المتواصل، والاغتيالات المستهدفة، والعمليات الاستخباراتية المتواصلة، حافظت الحركة على تماسكها وأظهرت انضباطاً في ساحة المعركة.

كل يوم يمر من دون تحقيق اختراق إسرائيلي حاسم يُبرز حدود القوة العسكرية عند مواجهة مقاومة محلية مُحفّزة.

أما خارج ساحة المعركة، فتواجه إسرائيل ضغوطاً دولية متزايدة. إذ أثارت الكارثة الإنسانية في غزة إدانة من الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومعظم دول الجنوب العالمي. وقد أدت صور الدمار ومعاناة المدنيين إلى تآكل مكانة إسرائيل الدولية، ووتر علاقاتها حتى مع حلفائها.

تجد الولايات المتحدة، الداعم الرئيسي لإسرائيل، نفسها تسير على حبل مشدود. فبينما تُوفر واشنطن غطاءً سياسياً ومساعدات عسكرية، تُدرك أيضاً مخاطر معركة مدنية طويلة الأمد قد تُزعزع استقرار المنطقة أكثر.

وتضغط الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة من أجل خفض التصعيد، خشية أن يؤدي احتلال شامل لمدينة غزة إلى تقويض استقرار الشرق الأوسط.

معضلة الأسرى

يُعزى تردد إسرائيل إلى مصير نحو 20 أسيراً يُعتقد أنهم مازالوا على قيد الحياة في غزة. فالهجوم على المدينة سيُعرّضهم للخطر بلا شك.

ففي المجتمع الإسرائيلي، تحمل قضية الأسرى ثقلاً عاطفياً هائلاً. فقد سقطت حكومات سابقة أو ضعفت بسبب فشلها في تأمين عودة الأسرى. أما زامير، الذي يُدرك التقلبات السياسية لهذه القضية، فهو غير مستعد لتحمل المسؤولية الكاملة عن الوفيات المحتملة للرهائن ولجنوده.

وينعكس هذا الانقسام في الساحة العامة. إذ تُنظم عائلات الأسرى تظاهرات ووقفات احتجاجية مطالبةً باتفاق تفاوضي بأي ثمن، بينما يُصرّ المتشددون على استمرار الحرب بغض النظر عن مصير الرهائن. ولقد أضاف الصدام بين هذين المعسكرين مزيداً من التوتر إلى مجتمعٍ مُستقطبٍ أصلاً، مُزيداً الضغط على حكومةٍ تعتمد وحدتها على إدامة الحرب بدلاً من حلّها.

مع ذلك، يبدو نتنياهو أقل اهتماماً. فهو لا يُركز على ضمان عودة الأسرى، بل على الحفاظ على وحدة ائتلافه ودفع مشروعه الأيديولوجي. فبالنسبة إليه، تُعدّ حياة الأسرى، وإن كانت رمزية، ثانوية مقارنةً بمنع ما يراه تهديداً وجودياً من قيام الدولة الفلسطينية.

وهكذا، يجد نتنياهو نفسه عالقاً في مفارقةٍ من صنع يديه. فهو يُطالب بانتصارٍ عسكريٍّ يُرسّخ إرثه ويُحافظ على ائتلافه السياسي الهش، إلا أن الطريق إلى هذا النصر مُحفوفٌ بالمخاطر التي يُحجم جنرالاته عن مُواجهتها.

إن إصراره على المضي قدماً يُهدد بتنفير المؤسسة الأمنية ذاتها التي يعتمد عليها بقاؤه. وتُعدّ تسريبات زامير وتحذيراته جزءاً من جهدٍ لضمان ألا يُصوّره التاريخ كبش فداء. بتوثيق تحفظاته، يُصوّر نفسه على أنه الطرف المسؤول، تاركاً نتنياهو يتحمل العبء السياسي للتصعيد.

ماذا بعد؟

لا ينتظر الجيش الإسرائيلي لأنه يفتقر إلى الوسائل اللازمة لمهاجمة مدينة غزة، بل ينتظر لأن جنرالاته يدركون أن التكاليف ستكون باهظة والمكاسب غير مؤكدة. قد يُسقط الاحتلال سيطرة «حماس» الإدارية، لكنه لن يقضي على الحركة أو أيديولوجيتها، بل يُخاطر بإيقاع إسرائيل في صراع مفتوح، يستنزف الأرواح والموارد، ويُزيد من عزلتها على الساحة العالمية.

مع ذلك، يبدو نتنياهو مستعداً لدفع هذا الثمن. حساباته بسيطة للغاية: من الأفضل استيعاب أكياس الجثث والانتقادات الدولية بدلاً من التنازل للتطلعات الفلسطينية. بالنسبة إليه، يُعد استمرار الحرب شريان حياة سياسياً وحملة أيديولوجية في آن واحد.

الخلاصة

التردد في شأن مدينة غزة ليس علامة ضعف، بل هو وعي. يُدرك زامير وجنرالاته أن اقتحام المدينة قد يكون نصراً باهظ الثمن، نصراً يضمن مكاسب قصيرة الأجل بتكاليف باهظة على المدى الطويل.

نتنياهو، المُحاصر بائتلافه، والمُسترشد بمعارضته الدائمة للدولة الفلسطينية، لا يرى في المعركة ضرورة عسكرية، بل ضرورة سياسية.

ما تنتظره إسرائيل إذن ليس اللحظة العسكرية المناسبة، بل الشجاعة السياسية لمواجهة حقيقة أن احتلال مدينة غزة قد لا يُحقق أياً من الأهداف التي يُعلنها نتنياهو، بل قد يُعمق المأزق الإستراتيجي الإسرائيلي ويكون جزءا من استمرار الحرب ومحاولة احتلال كامل القطاع.