بدأت إسرائيل بتكييف شعبها لقبول وجود عسكري طويل الأمد في قطاع غزة، مبررة هذا التطور بأنه خطوة ضرورية للحفاظ على الأمن وردع «حماس». واقترح وزير الدفاع إسرائيل كاتس، علناً انتشاراً إسرائيلياً دائماً في القطاع ومحيطه، على غرار العمليات في الضفة الغربية، وإن كانت التكلفة مرتفعة.

ولم يأخذ كاتس بالعقبات اللوجستية والأيديولوجية: ففصائل المقاومة في غزة ليست منزوعة السلاح ولا متحالفة سياسياً مع السلطة الفلسطينية في رام الله.

من جانبه، يبدو أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يستخدم مفاوضات وقف النار كأداة سياسية. وكانت رسالته إلى «حماس» صريحة: اقبلوا وقف النار بشروط إسرائيل - التي تشمل وجوداً عسكرياً دائماً في رفح - أو واجهوا الدمار والاحتلال الشامل.

ومع عجز المجتمع الدولي إلى حد كبير، ووقوف واشنطن إلى جانب تل أبيب، ينتهز نتنياهو الفرصة لمحاولة إجراء تغييرات إقليمية وديموغرافية على الأرض لا رجعة فيها.

ومع ذلك، فإن هذه الحرب ليست بلا ثمن بالنسبة إلى إسرائيل. فعملية «عربات جدعون» - وهي حملة استمرت شهرين - أودت بحياة أكثر من 50 جندياً وضابطاً إسرائيلياً. ورغم التوغلات المتكررة، لم يتمكن الجيش من تثبيت مواقعه في شكل كامل داخل القطاع بسبب استمرار عمليات المقاومة الفلسطينية.

وأفادت التقارير بأن رئيس الأركان إيال زامير، نصح الحكومة بأن السيطرة على الأراضي داخل القطاع تتطلب عاماً على الأقل من العمليات العسكرية مع تعبئة غير محدودة وتكلفة بشرية ومادية هائلة.

ويُقال إن زامير، رغم توافقه الظاهري مع أهداف نتنياهو، فإنه حذّر من التوسع العسكري بدوافع سياسية والذي قد يُنهك جيش الاحتلال دون تحقيق نتائج إستراتيجية مستدامة.

وتحاول الحكومة الإسرائيلية تطبيع فكرة حرب طويلة - ربما تستمر لأشهر أو حتى سنوات - وتهيئة الرأي العام لمستقبل تُعامل فيه غزة كما تُعامل الضفة الغربية.

وقد برز زعيم المعارضة يائير لابيد، كأحد أشد المنتقدين الداخليين لسياسة نتنياهو الحربية. واتهم الحكومة بتحويل ما بدأ كـ«رد مبرر على حماس في السابع من أكتوبر» إلى «سيناريو كارثي».

وفقاً للابيد، أهدرت إسرائيل شرعيتها الدولية، وتحولت من ضحية مُتصورة إلى منبوذة عالمياً. لقد غيّرت صور المجاعة والخسائر البشرية الجماعية والمدن المدمرة التصور العالمي في شكل لا رجعة فيه.

اعترافات دولية

تتبلور هذه التداعيات الدبلوماسية بالفعل. ففي أعقاب الحرب، أعلنت 15 دولة رسمياً، عزمها على الاعتراف بدولة فلسطين، هي: فرنسا، أستراليا، كندا، إسبانيا، أندورا، فنلندا، آيسلندا، أيرلندا، لوكسمبورغ، مالطا، نيوزيلندا، النرويج، البرتغال، سان مارينو وسلوفينيا. وأكدت بريطانيا أنها ستعترف بدولة فلسطين إذ لم تنه إسرائيل الحرب على غزة.

وتعهدت 9 دول أخرى بأن تحذو حذوها إذا لم توقف إسرائيل الأعمال العدائية في القطاع. وتُمثل هذه الموجة من الاعترافات، خصوصاً من الحلفاء التاريخيين لإسرائيل، شرخاً دبلوماسياً كبيراً وتُبرز تكلفة إستراتيجية نتنياهو.

يتجاوز رد الفعل العنيف مجرد الاعتراف الرمزي. فقد رفضت 22 دولة رسمياً آلية أميركية - إسرائيلية مقترحة لتوزيع المساعدات الإنسانية في غزة. إذ تُصرّ على إعادة هذه المهمة إلى منظمات محايدة، مثل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي دأبت على إدارة مثل هذه العمليات قبل تهميشها.

في غضون ذلك، بدأت إسرائيل بإسقاط المساعدات جواً على غزة، وهي خطوة يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها جهد علاقات عامة لتخفيف الإدانة الدولية مع تجنب المسؤولية الهيكلية عن الأزمة الإنسانية التي تسببت بها.

وعلى الرغم من الرواية الرسمية للأمن ومكافحة الإرهاب، إلا أن الأهداف الأوسع لحملة إسرائيل على غزة يصعب إخفاءها في شكل متزايد. فالحرب لم تعد تتعلق باستعادة الرهائن أو الانتقام من «حماس»، بل تحولت إلى معركة سياسية وأيديولوجية ذات دلالات وجودية يستخدمها نتنياهو لتعزيز قاعدته السياسية، وصد مزاعم الفساد، وتقديم نفسه على أنه الزعيم الوحيد القادر على حماية مستقبل إسرائيل.

ويرى اليمين المتطرف أنها فرصة لتحقيق رؤيته التوراتية لـ«إسرائيل الكبرى».

وبالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي، أصبحت الحرب ساحة اختبار لعقيدة جديدة صاغتها القيادة الدينية القومية التي تسعى للتخلص الدائم من الفلسطينيين على أرض فلسطين.

وقد أعلنت وزارة الصحة في غزة أخيراً عن حصيلة صادمة: أكثر من 60 ألف قتيل فلسطيني وأكثر من 200 ألف جريح خلال عامين من الحرب.

أسوأ المجاعات

وفي غضون ذلك، تواجه غزة واحدة من أسوأ المجاعات التي صنعها الإنسان في القرن الواحد والعشرين، والتي يُعزى معظمها إلى الحصار الإسرائيلي المطول والعمليات العسكرية.

ورغم هذه النتائج الكارثية، واصلت الولايات المتحدة - في عهد الرئيس دونالد ترامب - منح نتنياهو حرية شبه مطلقة في التصرف، مُعطيةً الأولوية لأهداف إسرائيل الإستراتيجية والأيديولوجية على الاستقرار الإقليمي الأوسع أو الشواغل الإنسانية.

وجل ما يطالب به الرئيس الاميركي هو التخلص من صور المجاعة إعلامياً لتستطيع إسرائيل إكمال الحرب بضجة دولية أقل صخباً. وقد شجع هذا الدعم غير المشروط القيادة الإسرائيلية على السعي لما يبدو أنه ضمٌ بطيءٌ وتدريجي لغزة.

وتشير الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة إلى «تجميد» مدروس للقتال الفعلي - ليس لإنهاء الحرب، بل لإعادة صياغتها. فالإستراتيجية الناشئة تتضمن تحويل المكاسب العسكرية الموقتة إلى سيطرةٍ دائمة على الأراضي، بدءاً بمنطقةٍ عازلةٍ خاليةٍ من السكان بحجة «الأمن». ويقارن المسؤولون الإسرائيليون بالفعل مستقبل غزة بمستقبل الضفة الغربية، مع الحديث عن انتشارٍ عسكريٍّ دائمٍ وهياكل مراقبة.

بدلاً من أن يكون هذا التحول نتيجةً لإستراتيجيةٍ شاملة، فإنه تُمليه اعتباراتٌ سياسيةٌ قصيرة المدى كالضغط الداخلي، والتوقعات الأميركية، وحاجة نتنياهو إلى الحفاظ على ائتلافٍ حاكمٍ هشٍّ يضم وزراءً من اليمين المتطرف.

وينظر هؤلاء الشركاء الايديولوجيون - وأبرزهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش - إلى غزة ليس فقط كتهديدٍ أمني، بل كأرضٍ يهوديةٍ مقدسة. ويضغط الرجلان على نتنياهو لضم القطاع بالكامل، إلى جانب الضفة الغربية، ولقد ذهبا إلى حد اقتراح إجراءاتٍ انتقاميةٍ ضد الدول الأوروبية التي تعترف بدولةٍ فلسطينية.

مفترق طرق

في هذه الأثناء، يقف المجتمع الدولي عند مفترق طرق. فرغم إصدار هيئات الأمم المتحدة بيانات تُدين التهجير القسري، والهندسة الديموغرافية، والإصابات الجماعية في صفوف المدنيين، إلا أن إنفاذ هذه القرارات كان محدوداً للغاية.

وقد سمح غياب العقوبات أو الضغط الدبلوماسي الجاد لإسرائيل بالمضي قدماً في طموحاتها الإقليمية من دون رادع يُذكر. وما دامت الولايات المتحدة ملتزمة بحماية إسرائيل من المساءلة العالمية، فإن المزيد من الضم - المُقنّع بذريعة فرض الأمن - يظل نتيجة محتملة.

هذا المسار خطير ليس فقط على الفلسطينيين، بل على إسرائيل أيضاً. فهو يُرسي سابقة للإفلات من العقاب، ويُرسّخ حالة حرب دائمة. ويخلق واقعاً تُعسكر فيه المساعدات الإنسانية، وتُسلّح فيه الدبلوماسية، وتُعاد صياغة المعايير الدولية وفقاً للوقائع على الأرض.

قد تسعى الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى تقديم غزة كحدود أمنية ضرورية، لكن التكاليف - من حيث الأرواح البشرية، والاستقرار الإقليمي، والثقة العالمية - آخذة في التزايد.

الواقع الناشئ واضح: لقد تطورت حرب إسرائيل على غزة إلى مشروع أوسع نطاقاً للاستحواذ على الأراضي والتحول الديموغرافي. تُتّبع هذه الإستراتيجية من خلال استخدام القوة العسكرية المدروسة، والتلاعب السياسي، وتجاهل مدروس للقانون الدولي. على العالم أن يقرر ما إذا كان سيستمر في تجاهل الأمر، أم سيواجه أخيراً السابقة الخطيرة التي تُرسى في غزة.