في تحوّل دبلوماسي لافت، تخلت الولايات المتحدة عن دورها التقليدي كوسيط محايد، وفرضت نفسها كوكيل فعلي لإسرائيل في المفاوضات مع «حماس». فبدلاً من التوسط في حل متوازن، تُقدم واشنطن اقتراحاً لوقف إطلاق النار يهدف في المقام الأول إلى تخفيف الضغط الداخلي المتزايد على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو - تحت ستار الاهتمام الإنساني وإطلاق الرهائن.

في قلب الخطة، التي روّج لها الرئيس دونالد ترامب وحلفاؤه السياسيون، اقتراح وقف إطلاق نار لمدة 60 يوماً. لكن هذا ليس جهداً صادقاً لإنهاء الحرب، بل وقفة محسوبة لإتاحة الوقت لإسرائيل لإعادة تنظيم صفوفها، وتعزيز موقفها العسكري والسياسي، واستئناف هجومها بقوة متجددة.

ويتحدث ترامب عن «وقف المعركة»، وليس إنهاء الحرب - وهو غموض مقصود يمنح نتنياهو الضوء الأخضر لمواصلة العمليات العسكرية كما يشاء بعد وقف إطلاق النار. فاختيار اللغة ليس مصادفة لانه يُمكّن إسرائيل من الحفاظ على المبادرة، مع تقديم الخطة كبادرة إنسانية للمجتمع الدولي.

يشير نص الاتفاق إلى «وقف عام للأعمال العدائية» في جميع أنحاء قطاع غزة، مُغفلاً عمداً أي إشارة إلى وقف دائم للحرب.

إنها خدعة دبلوماسية صُممت لخلق وهم التقدم مع ترسيخ الوضع الراهن. ولا يُشترط انسحاب إسرائيلي كامل، ولا أي آلية مُلزمة لضمان إيصال المساعدات الإنسانية بشكل مُستمر وغير مُقيد.

بدلاً من ذلك، يُشير الاقتراح بشكل مُبهم إلى عمليات إعادة انتشار محدودة وتحسينات طفيفة في توزيع المساعدات.

هذه التنازلات أقل بكثير من الاحتياجات الإنسانية على أرض الواقع. إذ يحتاج سكان غزة إلى آلاف شاحنات المساعدات يومياً، وليس مجرد لفتات رمزية.

ويُجبر الفلسطينيون على الوقوف في طوابير لساعات في مناطق مُكشوفة، غالباً تحت مراقبة الطائرات من دون طيار أو على مرأى من القناصة الإسرائيليين.

ويقُتل العشرات يومياً أثناء انتظارهم الطعام، مع وجود توجيهات عسكرية مُسربة تُخول القوات الإسرائيلية بإطلاق النار على المدنيين في نقاط توزيع المساعدات.

ودانت جماعات حقوق الإنسان ووكالات الأمم المتحدة هذه التكتيكات، لكن لم يتغير الكثير في الممارسة العملية.

مناورة تكتيكية

ما يسمى بوقف إطلاق النار ليس خطوة نحو السلام. إنها مناورة تكتيكية - أقرها ترامب وحلفاؤه - لتزويد إسرائيل بغطاء دبلوماسي مع مواصلة حملتها العسكرية. إنها في الواقع، متسترة بلغة إنسانية ومُقدمة على أنها خطوة نحو الاستقرار، هي في الواقع خريطة طريق لاحتلال طويل الأمد والمزيد من الدمار.

ولم يسبق لرئيس أميركي أن انحاز صراحةً إلى أجندة زعيم أجنبي كما فعل ترامب مع نتنياهو. فمن نقل السفارة الأميركية إلى القدس عام 2017 إلى الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان والمشاركة في الحرب على إيران، دأب ترامب على تعزيز المصالح الإسرائيلية المتشددة.

وقد عكست سياساته رؤية نتنياهو لإعادة تعريف الشرق الأوسط، حيث يُعامل تقرير المصير الفلسطيني على أنه عقبة وليس حقاً. بدلاً من أن يتصرف كرئيس دولة مستقل، عمل ترامب كمضخم دولي لنتنياهو - مردِّداً خطابه، ومدافعاً عن مطالبه، ومعيداً هيكلة الدبلوماسية الأميركية لدعم أهداف إسرائيل الاستراتيجية بعيدة المدى.

جاء هذا التوافق على حساب مصداقية الولايات المتحدة في المنطقة. فالدبلوماسيون العرب والأوروبيون الذين كانوا يعتبرون واشنطن وسيطاً رئيسياً، باتوا يعتبرونها الآن طرفاً فاعلاً حزبياً.

وتُرسل تهديدات ترامب لـ «حماس» إشارة واضحة: أي وقف لإطلاق النار سيُحكم عليه وفقاً للمعايير الإسرائيلية، وأن استمراره يعتمد على تعريفات إسرائيل المتغيرة لـ«الامتثال».

والنتيجة هي إطار سياسي يُملي فيه نتنياهو شروطه، وتُعززها واشنطن. ولم يُخفِ نتنياهو نواياه. فقد صرّح مراراً وتكراراً بأن الحرب لن تنتهي حتى يُعاد جميع الأسرى الإسرائيليين ويقضي على حماس.

«عقيدة استنزاف»

وحتى مع ذلك، لا يُقدّم سوى وقف موقت للأعمال العدائية. ويستبعد تعريفه للسلام أي تنازلات سياسية للفلسطينيين أو ضمانات طويلة الأجل. إنها عقيدة استنزاف: ممارسة ضغط عسكري متواصل، واستغلال فترات الهدوء الدبلوماسي، وانتظار انهيار المعارضة.

هذه الاستراتيجية ليست نظرية، بل هي بالفعل قيد التنفيذ. في يناير، أمكن تحقيق تهدئة في القتال لمدة 42 يوماً بفضل تبادل تدريجي للأسرى. لكن الهدنة انهارت عندما أوقفت إسرائيل العملية من جانب واحد. يقع جزء كبير من اللوم على المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، الذي روّج في البداية لخطة إطلاق سراح على مراحل قبل أن يتحوّل إلى المطالبة بالعودة الفورية لجميع الأسرى الإسرائيليين. وبذلك، تخلى عن دور الوسيط وتبنى موقف المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية. مثّل هذا التحوّل انهياراً أوسع نطاقاً لمصداقية الدبلوماسية الأميركية.

الآن، أصبحت نوايا إسرائيل واضحة: استعادة جميع الأسرى، ثم استئناف الهجوم. إذ إن أكثر من 70 % من غزة تحت السيطرة الإسرائيلية بالفعل. تستمر الأوامر العسكرية بالإجلاء الجماعي، مما يدفع الفلسطينيين إلى النزوح من منازلهم تحت تهديد القصف.

هندسة التركيبة السكانية

يصف النقاد الأمر بأنه حملة متعمدة من التهجير القسري - وهي إستراتيجية تهدف إلى إعادة هندسة التركيبة السكانية والإقليمية لغزة. العواقب الإنسانية صادمة: أكثر من مليون نازح، وتدمير البنية التحتية، وتقليص أساسيات البقاء على قيد الحياة إلى مجرد صدفة.

لذلك، فإن نتنياهو لن يتوقف وهو في الجزء الاخير لتحقيق أهدافه وحلمه بدخول تاريخ إسرائيل بإنجازاته العسكرية على حساب الشعب الفلسطيني.

لا يوفر ائتلاف نتنياهو اليميني المتطرف، أي فرصة حقيقية للسلام. يضمن التركيب السياسي لحكومته - التي يهيمن عليها القوميون المتطرفون والمتشددون - أن يُنظر إلى أي فرصة لحل تفاوضي بعين الريبة أو العداء الصريح. بالنسبة لهذه الفصائل، فإن الحرب ليست ضد «حماس» فحسب، بل ضد مفهوم السيادة الفلسطينية ذاته. لطالما صور نتنياهو هذا الصراع كوسيلة لتصفية حسابات تاريخية. رؤيته ليست رؤية تعايش بل غزو.

إن الحرب في غزة، إذاً، جزء من استراتيجية أوسع للقضاء على مطالبات الفلسطينيين بالأرض - ليس فقط في غزة ولكن في جميع أنحاء الضفة الغربية.

إن خطاب «النصر الكامل» لا يهدف إلى تحييد التهديد؛ يتعلق الأمر بمحو المستقبل السياسي لشعب.

بدعم من الولايات المتحدة، يمضي نتنياهو قدماً برؤية هيمنة إسرائيلية دائمة، ويعيد رسم الخريطة بينما يراقب العالم.

انتخابات مبكرة

حتى وقت قريب، كان نتنياهو متردداً في الدعوة إلى انتخابات مبكرة. بسبب المشاكل القانونية والتقلبات السياسية، كان يخشى مخاطر التصويت في غير أوانه.

لكن الآن، مدعوماً بما يدعي أنها نجاحات عسكرية في غزة ولبنان وسوريا وحتى إيران، يبدو نتنياهو أكثر جرأة. يمكن تصوير وقف إطلاق النار الموقت وعودة الأسرى الإسرائيليين على أنهما انتصار وطني، مما يمنحه الزخم السياسي المثالي للدعوة إلى انتخابات مبكرة.

لن تمثل مثل هذه الخطوة نهاية للصراع - بل ستكون بمثابة نقطة انطلاق لتفويض متجدد وترسيخ أعمق لطموحاته الإقليمية.

في غضون ذلك، يعرب حلفاء الولايات المتحدة التقليديون عن قلقهم بشأن موقف واشنطن. وقد شكك دبلوماسيون أوروبيون في حكمة التخلي عن الحياد، بينما تخشى الدول العربية انهيار التوازن الإقليمي.

إن التداعيات الأوسع نطاقاً خطيرة: تداعيات محتملة على جهود التطبيع، وتزايد الاستقطاب في العالم العربي، وتنامي الشعور بأن الدبلوماسية قد ماتت في مواجهة القوة العسكرية.

لم يعد تواطؤ واشنطن في هذه الأجندة خفياً. فبمواءمة السياسة الخارجية بشكل وثيق مع أهداف نتنياهو، فقدت أميركا مكانتها كوسيط نزيه. لقد تبنت إطاراً تُعتبر فيه حياة الفلسطينيين أضراراً جانبية في حملة هيمنة إقليمية.

وبعيداً عن السعي إلى السلام، يساعد ترامب وحلفاؤه إسرائيل على تحقيق رؤية حرب دائمة وهندسة ديموغرافية وتطهير عرقي.

إن تكلفة هذا التوافق ليست مجرد عدم استقرار إقليمي أو كارثة إنسانية، بل هي تآكل السلطة الأخلاقية لأميركا على الساحة العالمية. بتحويل الدبلوماسية الأميركية إلى بوق للمتشددين الإسرائيليين، أعاد ترامب تعريف الرئاسة الأميركية في الشرق الأوسط - ليس كمفاوض، بل كممكّن.