لم تدعْ شدّةُ الهجوم الإسرائيلي المتجدّد على قطاع غزة أيّ مجالٍ للشك في أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كان يُعِدّ لهذا التصعيد منذ فترة طويلة، معتبراً إياه مناورة إستراتيجية للضغط على حركة «حماس» والتحرر من قيود اتفاق وقف النار.
وقد اتخذ نتنياهو قراره المدروس باستئناف الحرب الشاملة في تَجاهُلٍ صارخٍ لمصيرِ الأسرى الإسرائيليين الذين لايزالون محتجَزين لدى «حماس»، ومعرّضين لخطر الموت في القصف المستمر.
ولا يُشير الهجوم المتجدد إلى محاولةٍ لترهيب وإضعاف المقاومة الفلسطينية فحسب، بل يُمهّد أيضاً الطريقَ لغزوٍ بري محتمَل ليصبح من المرجّح جداً الآن أن يأمر نتنياهو الجيش بالتقدّم إلى غزة، بهدف احتلال مناطق رئيسية ونقْل الفلسطينيين قسراً داخل القطاع، وهي خطوة من شأنها أن تفتح الباب أمام السيطرة الإقليمية طويلة الأمد وترسيخ الكارثة الإنسانية في شكل أكبر.
ويُبْرِزُ رفضَ نتنياهو لوقف النار الذي وافق عليه استعدادَه لإعطاء الأولوية لبقائه السياسي على البراغماتية العسكرية والاعتبارات الإنسانية. ويعكس إصرارُه على مواصلة الحرب، رغم المعارضة الداخلية وتنامي المعارضة الشعبية، جهداً مدروساً لتحويل الانتباه عن إخفاقاته السياسية. وباختياره تجديد الصراع بدل المفاوضات، فإنه لا يُعرّض حياة الرهائن الإسرائيليين المحتجَزين في غزة للخطر فحسب، بل يُلحق أيضاً المزيد من الدمار بالمدنيين الفلسطينيين، ما يُعمّق أزمة إنسانية جارفة أصلاً.
الضوء الأخضر الأميركي للحرب
لعبت الإدارة الأميركية دوراً حاسماً في تسهيل استئناف الحرب. ففي الأسابيع الأخيرة، خرجت إشاراتٌ متعددة من واشنطن لنتنياهو بأن إدارة دونالد ترامب لن تُعارض أي هجوم إسرائيلي.
وكانت الولايات المتحدة قد فشلت بالفعل في الحفاظ على دورها كوسيطٍ في اتفاق وقف النار، رافضةً الضغطَ على نتنياهو لتنفيذ الالتزامات الإنسانية المُحددة في المرحلة الأولى، بما في ذلك توفير ما يكفي من الغذاء والوقود وعشرات الآلاف من الخيام والمنازل الجاهزة لسكان غزة المُدمرين.
وبدل دَفْعِ إسرائيل نحو المرحلة الثانية، التي تقتضي انسحاباً إسرائيلياً كاملاً من غزة وممر فيلادلفيا، قدّمت واشنطن خطةً جديدةً قوّضت الاتفاق فعلياً. وقد طالب الاقتراح المعدّل «حماس» بإطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين دفعةً واحدة، دون أي ضماناتٍ بوقف إسرائيل عملياتها العسكرية أو سحْب قواتها.
ولم يترك هيكل الاتفاق للفلسطينيين أي ضمانات باحترام إسرائيل لوقف نار طويل الأمَد، ما جعله بمثابة إنذار نهائي للاستسلام غير المشروط.
وما زاد من الكارثة الإنسانية، أن إسرائيل فرضت سيطرتها الكاملة على توزيع المساعدات، مُنظِّمةً مواعيد حصول سكان غزة على الطعام، وتلقي الأدوية، أو الحصول على مواد إعادة الإعمار الأساسية. وقد وجّه المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، إنذاراً مُبطّناً لـ«حماس»، مُعلناً أن «فرصتها الأخيرة انتهت»، ومُحذّراً الفلسطينيين بأن عليهم «أن يتعلموا درساً مما فعلتْه الولايات المتحدة في اليمن». وكان هذا إشارةً واضحةً إلى الغارات الجوية الأميركية الأخيرة.
ولم يكن تصريح ويتكوف محاولةً ديبلوماسية، بل دعوةً صريحةً لحماس للاستسلام - وهو مطلبٌ لا ينتهك اتفاق وقف النار فحسب، بل يتجاهل أيضاً الحقائق السياسية على الأرض.
شريان الحياة السياسي لنتنياهو
بالنسبة لـ«حماس» والمقاومة الفلسطينية، يستحيل تلبية المطالب الأميركية - الإسرائيلية. فقبولها يعني الاستسلام لائتلاف نتنياهو اليميني المتطرف الذي دعا علناً إلى التهجير القسري لجميع الفلسطينيين من غزة. وقد صرّح مسؤولون بارزون في الحكومة الإسرائيلية مراراً أن «لا أحد في غزة بريء، بمَنْ فيهم الأطفال والنساء».
وقوبل هذا الخطاب بانتقادات شديدة، حتى داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نفسها، حيث بدأت تظهر انقسامات عميقة حول نطاق الحملة العسكرية على غزة ونياتها.
ومن أبرز الأصوات المعارضة رئيس الأركان ووزير الدفاع السابق موشيه يعالون، وهو شخصية عسكرية محترمة لعب دوراً محورياً في تشكيل سياسات الدفاع الإسرائيلية لعقود. وقد اتّهم يعالون نتنياهو وحكومته والجيش الإسرائيلي علناً بارتكاب تطهير عرقي في غزة.
إضافة إلى ذلك، يُؤكد قرار نتنياهو بإقالة رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي واستبداله بإيال زامير على الطبيعة السياسية العميقة للحرب الجارية. إذ بينما قاد هاليفي إحدى أكثر الحملات العسكرية تدميراً في تاريخ غزة، إلا أنه أدركَ في النهاية أن المفاوضات - خصوصاً في ما يتعلق بالسجناء الإسرائيليين المحتجَزين لدى حماس - ضرورية لإنهاء الصراع. وتَعارَضَ استعدادُه لاستكشاف حل دبلوماسي - مهما كان محدوداً - في النهاية مع أجندة نتنياهو التي تُعطي الأولوية للحرب الدائمة على التهدئة الاستراتيجية.
وبإقالة هاليفي، قضى نتنياهو على شخصية عسكرية رئيسية - على الرغم من سجلّه في جرائم الحرب في غزة - لاتزال تدعو إلى مستوى معيّن من البراغماتية في التعامل مع أزمة الرهائن.
من ناحية أخرى، يُعد القائد الجديد إيال زامير من أشد الموالين لنتنياهو، وهو معروف منذ فترة طويلة بموقفه المتشدد تجاه غزة ودعمه الثابت لاستراتيجية الجيش أولاً.
ويشير تعيينه إلى تَحَوُّلٍ نحو موقف عسكري أكثر عدوانية، لا يهدف فقط إلى هزيمة حماس، بل إلى تبرير الاحتلال المطوّل لغزة، ورفْض المفاوضات تماماً، وترسيخ سيطرة نتنياهو السياسية بشكل أكبر.
ويضمن اختيار زامير أن يعمل الجيش الإسرائيلي دون أي مقاومة داخلية لأهداف نتنياهو. ذلك أن عقيدته تتوافق تماماً مع رؤية ائتلاف اليمين المتطرف التي تشمل القصف العشوائي، والتدمير المنهجي للبنية التحتية الفلسطينية، والتجاهل التام لحياة الأسرى الإسرائيليين الذين مازالوا محتجزين في غزة.
الحرب كإستراتيجية للبقاء السياسي
لم يكن نتنياهو، إلى جانب وزيري اليمين المتطرف إيتمار بن غفير (العائد) وبتسلئيل سموتريتش (وزير المال)، مهتمّين قط بتأمين إطلاق سراح السجناء الإسرائيليين عبر التفاوض. بل كان تركيزهم دائماً منصبّاً على القوة العسكرية، مستغلّين الحرب لصرف الانتباه عن الفضائح الداخلية والمشاكل القانونية وإخراج الفلسطينيين من غزة نحو دولة أخرى.
وتشير التقارير الأخيرة إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل تواصلتا مع دول أفريقية عدة، بما في ذلك السودان والصومال، لاستكشاف إمكان إعادة توطين الفلسطينيين النازحين من غزة.
ويُعَدّ هذا الجهد جزءاً من مخطط أوسع لتسهيل التهجير الدائم للفلسطينيين من وطنهم، ما يُمَهِّدُ الطريقَ لمزيدٍ من التوسع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين المحتلة.
ومع ذلك، قوبلت هذه الجهود بمقاومة شديدة من الدول المستهدَفة، إذ رَفَضَ المسؤولون السودانيون في شكل قاطع قبولَ أي فلسطيني مُهجّر قسراً من غزة، فيما نفت الصومال أي مشاركة في مثل هذه المناقشات.
ولم تُبدِ الدولتان أي اهتمام بالمشاركة في ما تعتبرانه خطةً مثيرةً للجدل إلى حدٍ كبير، ولا يمكن الدفاع عنها أخلاقياً.
ورغم هذا الرفض، لا يُتوقّع من الحكومة الإسرائيلية ولا الإدارة الأميركية التخلي عن جهودهما الطويلة الأمد لإجبار الفلسطينيين على النزوح مرة أخرى.
ومع ذلك، إذا كانت الأشهر الـ 15 من الحرب المتواصلة قد برهنت عن شيء، فهو أن الفلسطينيين ليسوا على استعداد للتنازل عن أرضهم دون قتالٍ شرس. إن الصمود الذي أظهروه في ظل القصف العشوائي، وأساليب التجويع، والنزوح الجماعي، دليلٌ على تصميمهم على التمسك بما تبقى من وطنهم.
علاوةً على ذلك، لم يُوافِق المجتمع الدولي قطّ على مثل هذه الخطة، مُعترفاً بأن النزوح القسري انتهاكٌ صارخٌ للقانون الدولي. وبينما يواصل نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرف الدفع قدماً بطموحاتهم الاستيطانية الاستعمارية، ازدادت المعارضة العالمية للتهجير الجَماعي للفلسطينيين.
وبرفضه شروط وقف النار، وتهميشه للمفاوضات، ومواصلته الغارات الجوية العشوائية، لا يسعى نتنياهو إلى تحقيق أمن إسرائيل على المدى الطويل، بل يُقاتل من أجل بقائه. وهذه الحرب لا تتعلق بغزة أو «حماس»، حتى، فالأمر يتعلق بإبقاء نتنياهو في السلطة بأي ثمن، بغض النظر عن الدمار وعن سفك الدماء.