لطالما كان التوتر الجيوسياسي بين إسرائيل وإيران، حَجَرَ الزاوية في السياسة في الشرق الأوسط. وقد أدى اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية في طهران إلى رفْع مستوى التوترات في شكل كبير.

وأجبر هذا الحدث إسرائيل على الاستعداد لمواجهة الانتقام الفوري الإيراني وسط مؤشراتٍ إلى التصعيد المحتمل للصراع بعد الضربة الصاروخية الأولى.

وفشلت جهود الوساطة في ثني إيران عن الانتقام لِما تراه انتهاكاً صارخاً لسيادتها، خصوصاً في ضوء رفْض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أي وقفٍ لإطلاق النار في غزة، معانداً في ذلك توصيات قواته الأمنية بإنهاء الصراع في غزة.

ويهدّد هذا الوضع بمزيد من التصعيد، إذ من المرجح أن يجذب أيُّ صراعٍ أكبر بين إيران وإسرائيل جميع أطراف «محور المقاومة» الذين لن يظلوا على الحياد بغض النظر عن العواقب.

يستقوي نتنياهو في محاربته إيران وحلفائها بالدعم الأميركي، فهو لا يستطيع القتال بمفرده. وقد شكلت الولايات المتحدة تحالفاً من القوات الغربية لاعتراض صواريخ إيران. إذ لا يؤمّن هذا التحالف الدعمَ المعنوي لإسرائيل فحسب، بل يوفّر لها أيضاً شراكة عسكرية كاملة، ما يجر جميع القوى حتماً إلى ملعب النار.

ويدرك نتنياهو أن ادعاءات الإدارة الأميركية بأن القوات الإضافية المرسَلة إلى الشرق الأوسط دفاعية بحت، لا تعني أن الولايات المتحدة يمكن أن تتركه بمفرده، رغم سعيها إلى الإحجام عن الانجرار إلى حربٍ أكبر، وخصوصاً مع احتمال تعرض قواعدها في الشرق الأوسط للخطر خلال فترة الانتخابات الرئاسية.

وكان الرئيس جو بايدن حضّ نتنياهو مراراً وتكراراً على إنهاء الحرب وقبول الصفقات المقترَحة حول غزة، لكنه رفض باستمرارٍ هذه المبادرات.

وتشير تدابير الاستعداد المستدامة إلى أن إسرائيل تتوقّع حرباً معقّدة وطويلة الأمد، ومن المرجح أن تنطوي على دوراتٍ انتقامية عدة من إيران وربما تجتذب جهاتٍ فاعلةً إقليمية وعالمية.

إن السياق السياسي لقيادة إسرائيل في ظل رئيس وزراءٍ يتمتع بمكانة مثيرة للجدل ومعارضة من رؤساء الاستخبارات يزيد من تعقيد المشهد الإستراتيجي.

دوافع سياسية

وقرار نتنياهو بتصعيد الصراع ينطلق من دوافع سياسية تضمر الحفاظَ على السلطة حتى نهاية ولايته في أكتوبر 2026. وتالياً يمكن للتصعيد التصاعدي من قِبل القيادة في زمن الحرب، في بعض الأحيان، أن يعزز الدعم الرصيد ويهمّش المعارضة.

ومن المهم القول إن معاندة رئيس الوزراء لتوصيات رئيسي «الموساد» و«الشاباك» تَعكس إستراتيجيةً تهدف إلى إظهار قيادته الحاسمة واستقلاله في صنع القرار، ما قد يؤدي إلى تحفيز المشاعر القومية.

الاستعدادات الإستراتيجية

نفذت إسرائيل، التي يقودها حالياً رئيس وزراءٍ يواجه معارضةً سياسيةً كبيرةً ويتصرف ضدّ نصيحةِ رؤساء استخباراته، تدابير واسعة النطاق تحسباً لصراعٍ طويل الأمد محتمل مع إيران وحلفائها.

إذ أمرت وزيرة النقل ميري ريجيف بالاستعداد لفتْح جميع محطات المترو على خط المواجهة. وهذه المحطات ستُستخدم كملاجئ في حال الطوارئ.

وهذا الإجراء يشكل جزءاً من الاستعدادات الأوسع لجولاتِ التصعيد المحتملة. إذ إن فتْح محطات المترو كملاجئ يعزّز البنية الأساسية للدفاع المدني، ويوفّر ملجأ فورياً للمدنيين أثناء الغارات الجوية أو الهجمات الصاروخية، ما يقلل من الخسائر ويحافظ على الروح المعنوية العامة أثناء الصراعات.

ولأن محطات المترو تقع تحت الأرض، فإنها تؤمن حمايةً كبيرةً من التهديدات الجوية مثل الصواريخ والقنابل والشظايا. وهي مصمَّمة لتحمّل الأضرار البنيوية، وتوفر بيئةً أكثر أماناً مقارنةً بالملاجئ على مستوى السطح. وفي الإمكان استخدام بعض محطات المترو كمراكز قيادة وتَحَكُّم لتنسيق الاستجابات الطارئة والعمليات العسكرية، نظراً لطبيعتها الآمنة والمَخْفية.

وقد اتخذت إسرائيل خطوات حاسمة عدة تحسباً للصراع المستمر. ومن التدابير الأساسية زيادة احتياطيات الأدوية الأساسية والإمدادات الطبية في شكل كبير نتيجة توقُّع سقوط أعداد كبيرة من الضحايا خلال اشتباكاتٍ مكثفة وطويلة الأمد.

ولضمانِ استمرار إمداد البنى التحتية الحيوية بالكهرباء، قامت إسرائيل بتخزين المولدات وتأمين إمدادات الوقود الكافية. وهذا أمر بالغ الأهمية للحفاظ على القدرة التشغيلية، خصوصاً للمستشفيات والمنشآت العسكرية ومراكز الاتصالات. وقد صُممت هذه التدابير لمواجهة الهجمات المحتملة على شبكة الطاقة الوطنية. ويشير التأمين السريع للإمدادات الطبية إلى الاستعداد للحوادث ذات الخسائر العالية.

وتُعتبر الاتصالات عبر الأقمار الاصطناعية ضروريةً للحفاظ على العمليات العسكرية والمدنية أثناء الصراعات الطويلة للتخفيف من خطر انقطاع الاتصالات بسبب الهجمات الإلكترونية أو الأضرار المادية للشبكات التقليدية.

فالحفاظ على قدرات القيادة والسيطرة أمرٌ ضروري لتنسيق جهود الدفاع والاستجابة، ما يعكس الاستعداد لخصمٍ متطور قادر على استهداف البنى التحتية للاتصالات.

إضافة إلى ذلك، فإن ترقيةَ الملاجئ العامة، وإجراء التدريبات على مستوى البلاد، وتعزيز أنظمة الانذار المبكّر هي تدابير متخَذة لحماية السكان المدنيين وضمان الاستعداد للهجمات الصاروخية أو أشكال العدوان الأخرى.

وتعمل هذه الإجراءات على زيادة المرونة العامة والحد من الخسائر، وهو أمر ضروري للحفاظ على الروح المعنوية والاستقرار المجتمعي أثناء الصراعات الطويلة الأمد.

وتؤكد هذه التدابير الوقائية إدراكَ إسرائيل للقدرات العسكرية المتنامية لأعدائها وإمكان إلحاق أضرار جسيمة بالبنى التحتية المدنية والعسكرية الإسرائيلية. فهي تواجه تحدياً غير مسبوق، ومع ذلك لا يُظْهِر نتنياهو أي علامة على التهدئة. وبدل ذلك، يخوض حرباً من أجل بقائه الشخصي، حتى على حساب سلامة شعبه.

ديناميات التصعيد المحتملة

ونظراً للطبيعة الدورية للانتقام والانتقام المضاد، فقد يتكشّف الموقف على مراحل عدة. ويمكن أن يستهدف الانتقام الإيراني الأولي المنشآتِ العسكرية الإسرائيلية والبنى التحتية الإستراتيجية والمراكز الحضرية. وقد تَستخدم إيران أيضاً حلفاء مثل «حزب الله» في لبنان والجماعات المسلّحة في سورية والعراق لشنّ هجمات في خطوات لاحقة، اعتماداً على مدى اعتزام نتنياهو دفْع التصعيد.

ويمكن أن تنفذ إسرائيل غاراتٍ جويةً دقيقةً على المنشآت العسكرية الإيرانية والمواقع النووية ومواقع إطلاق الصواريخ، جنباً إلى جنب مع زيادة جهود الحرب السيبرانية لتعطيل أنظمة القيادة والسيطرة الإيرانية. وقد تشهد الاستجابات الإيرانية اللاحقة تكثيفَ وابل الصواريخ، بما في ذلك الاستخدام المحتمَل لصواريخ أكثر تقدماً ودقة تَستهدف البنى التحتية الاقتصادية الإسرائيلية، مثل الموانئ ومرافق الطاقة، لإلحاق أضرار اقتصادية طويلة الأجَل.

وقد ينطوي الصراع الطويل على جهات فاعلة إقليمية أخرى، إما في شكل مباشر وإما من خلال الحلفاء، ويتصاعد إلى صراعٍ إقليمي أوسع نطاقاً يجتذب دول الشرق الأوسط بما فيها العراق وسورية ولبنان والقوى العالمية المحتمَلة ذات المصالح الخاصة.

ويمكن أن تؤدي دورة الانتقام المستمرة إلى زعزعة استقرار المنطقة في شكل خطير، ما يؤثر على طرق إمدادات النفط العالمية عبر مضيق هرمز، ويسبّب تالياً آثاراً اقتصادية في جميع أنحاء العالم.

وستكون هناك حاجة إلى زيادة الجهود من جانب القوى العالمية للتوسّط ومنْع حرب واسعة النطاق، رغم أن النجاح الفوري قد يكون محدوداً بسبب العداوات العميقة والمصالح الإستراتيجية.

تحالف أميركي لدعم إسرائيل

ورداً على التهديد المتزايد، شكلت الولايات المتحدة تحالفاً للدفاع عن إسرائيل واعتراض الصواريخ الإيرانية. ويهدف هذا التحالف، إلى تقديم الدعم الإستراتيجي وتعزيز الاستقرار الإقليمي.

ونشر التحالف، أنظمةَ دفاعٍ صاروخي متقدمة، بما في ذلك صواريخ «ثاد» و«باتريوت»، لاعتراض الصواريخ الإيرانية الآتية. وتتمرْكز سفن الدفاع الصاروخي البالستي «إيجيس» في شرق البحر المتوسط والخليج، ما يوفّر قدرةَ اعتراضٍ للصواريخ المتنقلة القائمة على البحر.

وتعمل الدوريات الجوية المستمرة التي تقوم بها مقاتلات تابعة للتحالف على حماية المجال الجوي الإسرائيلي والتعامل مع التهديدات المحتملة، في حين يعمل الوجود البحري المتزايد على تأمين الطرق البحرية الرئيسية، بما في ذلك البحر الأحمر والبحر المتوسط وبحر العرب والخليج.

ويضمن التعاون الاستخباراتي المعزَّز الكشفَ في الوقت الفعلي واستباق إطلاق الصواريخ الإيرانية وغيرها من الأنشطة العسكرية.

وتعمل مبادرات الدفاع السيبراني المشترَكة على حماية البنية التحتية الحيوية من الهجمات السيبرانية وتعطيل شبكات القيادة والسيطرة الإيرانية.

وأعلنت الولايات المتحدة أخيراً عن نشر قوات عسكرية إضافية في الشرق الأوسط وسط تصاعد التوترات مع إيران.

ويشمل ذلك 300 جندي للقيادة المركزية الأميركية لردْع الجماعات المناوئة ولحماية القوات الأميركية الموجودة في المنطقة.

وهذه القوات هي جزء من فرقة أكبر تضم 2000 جندي أميركي في حال تأهب قصوى منذ هجوم 7 أكتوبر 2023 الذي شنّته «حماس» على إسرائيل.

بالإضافة إلى ذلك، زادت الولايات المتحدة من وجودها العسكري في المنطقة من خلال نشر مجموعتين من حاملات الطائرات، ومجموعة جاهزة للبرمائيات مع وحدة مشاة بحرية، وأسراب مقاتلة من القوات الجوية، ووحدات دفاع جوي للجيش. وتهدف هذه الخطوة إلى تعزيز جهود الردع الإقليمية وتعزيز قدرات حماية القوة ضد التهديدات الإيرانية المحتملة.

وكان الرئيس جو بايدن أكد التزام الولايات المتحدة بدعم إسرائيل، موضحاً أن واشنطن ستقدم الدعم اللازم للدفاع عن إسرائيل ضد العدوان الإيراني، بما في ذلك الدعم المعنوي والشراكة العسكرية النشطة. وعلى الرغم من الادعاءات بأن القوات الإضافية جاءت لأغراض دفاعية، فإن تصرفات الولايات المتحدة تعكس التزاماً أوسع بأمن إسرائيل.

احتمالات تَدَحْرُج التصعيد

قد تشهد عمليات الانتقام الأولية ضربات صاروخية إيرانية تستهدف المدن والمنشآت العسكرية الإسرائيلية، وربما تمتد إلى القواعد الأميركية في المنطقة. وقد تردّ إسرائيل بشنّ غارات جوية دقيقة على المواقع والبنى التحتية العسكرية الإيرانية، بدعمٍ من قوات التحالف. ومن شأن أنظمة الدفاع الصاروخي للتحالف أن تعترض بعض الصواريخ الإيرانية، ما يقلل - ولا يمنع - من الأضرار التي تلحق بالأهداف الإسرائيلية، في حين قد تنفّذ القوات الجوية للتحالف حملات قصف إستراتيجية ضد مواقع إطلاق الصواريخ الإيرانية والبنى التحتية العسكرية.

وقد يؤدي النشاط المتزايد من جانب حلفاء إيران، مثل «حزب الله»، إلى شنّ هجمات على إسرائيل وقوات التحالف. ويمكن أن تقع مناوشات بين القوات البحرية للتحالف ووحدات البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني في الخليج ومضيق هرمز.

وقد تدفع التهديدات المحتملة للممرات الملاحية عبر مضيق باب المندب في البحر الأحمر قوات التحالف إلى تأمين الطريق ضد التدخل الإيراني. وستهدف الدوريات البحرية إلى حماية الطرق البحرية في البحر الأبيض المتوسط، وخصوصاً حول قناة السويس.

وستحاول العمليات الرئيسية للتحالف في بحر العرب والخليج تأمين طرق شحن النفط، مع احتمال وقوع اشتباكات مع القوات البحرية الإيرانية. وقد تتسبب الاضطرابات في طرق إمدادات النفط العالمية بتقلبات كبيرة في أسعار النفط وتؤثر على الأسواق العالمية.

ويهدد الصراع بزعزعة استقرار الشرق الأوسط بأكمله، ما قد يجر البلدان المجاورة ويُفْضي إلى حرب إقليمية أوسع نطاقاً. ومن شأن تَزايُد الخسائر بين المدنيين وتعاظُم النزوح أن يستدعي تدخلات إنسانية دولية واسعة النطاق.

فاحتمال اندلاع حرب إقليمية أوسع نطاقاً وتأثيراتها الإنسانية والاقتصادية البعيدة المدى تؤكد تفضيل العالم وقف إطلاق النار، باستثناء رئيس الوزراء الإسرائيلي.

ويسلّط هذا التصعيد غير المحسوب الضوءَ على الحاجة الملحة إلى الجهود الدبلوماسية لتهدئة الوضع وتجنُّب صراع إقليمي واسع النطاق.