في اجتماع دول عدم الانحياز في مدينة كمبالا، عاصمة أوغندا، صرّح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأن «حق الشعب الفلسطيني في بناء دولته يجب أن يعترف به الجميع وأن حرمان الشعب الفلسطيني من إقامة دولته أمر غير مقبول»، وذلك رداً على قول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو «إنه يجب أن تكون لإسرائيل سيطرة أمنية على كل الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن»، في إشارة إلى فلسطين التاريخية التي تشتمل على دولة فلسطين المستقلة التي يدعم الغرب قيامها.

وتأكيد نتنياهو هذا كان ردّاً على تصريح جو بايدن الذي قال إنه «تكلم مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي لا يعترض على قيام دولة فلسطينية». وهذا ما يُعد صفعة كبرى للرئيس الأميركي، الداعم المطلق لإسرائيل والذي يخوض معركة انتخابية رئاسية شرسة أمام خصم عنيد، دونالد ترامب، الذي تتوسع شعبيته أكثر جراء موقف الإدارة الأميركية الحالية من الحرب على قطاع غزة.

اللافت في الأمر أن تكذيب بايدن أتى من ديوان رئاسة الوزراء، يوم السبت، الذي تَعتبره إسرائيل يوم عطلة مقدساً وذلك فقط للرد على ما قاله الرئيس الأميركي لجهة إن «الحل (الدولتين) غير مستحيل في وجود نتنياهو في الحُكْم».

وهذا الموقف الأميركي يتعارض مع ما سعى إليه رئيس الوزراء، بصفته زعيم الليكود أيضاً، لمدة 30 عاماً لنسف فكرة دولة فلسطينية من جذورها، وقيامه ببناء عشرات الآلاف من المنازل غير الشرعية في مستوطنات جديدة أوْجدها لسرقة أراضي فلسطينية اعتبرها المجتمع الدولي - وليس الغربي فقط - غير قانونية، ومن دون أن يكترث يوماً (أي نتنياهو) للاعتراضات الدولية. وهذا ما أكده عندما قال إن «على رئيس الوزراء أن يكون قادراً على قول لا لأصدقائنا (أميركا)».

لم يكذب نتنياهو يوماً ولم يحاول إخفاء نياته وأهدافه تكراراً ومراراً بقوله إنه «فخور لأنه منع قيام دولة فلسطينية»، لأن حزبه يعتبر أن «أرض إسرائيل لا جدال فيها وهي تضم يهود (الخليل) والسامرة (نابلس)»، وهي المنطقة الإدارية التي تشمل الضفة الغربية باستثناء القدس الشرقية.

وكذلك يَعتبر البيان التأسيسي لحزب الليكود الصادر عام 1977 أن الخليل ونابلس وغزة جزء من إسرائيل وحق الشعب اليهودي الأبدي ولن يتم تسليمها إلى أي إدارة أجنبية، وأن أي تخل عن أجزاء من غرب أرض إسرائيل يقوّض حقنا في البلاد ويؤدي إلى قيام دولة فلسطينية ويعرض وجود دولة إسرائيل للخطر ويبطئ أي احتمال للسلام.

ولهذا، فإن جميع مَن تزعّموا حزب الليكود ورئاسة الوزراء يحملون المبدأ نفسه، من مناحيم بيغين (1977)، إسحاق شامير (1983)، نتنياهو (1996)، أرييل شارون (1999)، ايهود أولمرت (2066) إلى نتنياهو جدداً (2009).

ولا يشكل طلب أميركا وأوروبا - على لسان جوزيب بوريل، منسق العلاقات الخارجية في المجموعة الأوروبية - بإقامة دولة فلسطينية إلا نداءً لا قيمة له لأن إسرائيل لن تعطي الأراضي التي احتلتْها منذ عام 1967 ولن تزيل المستوطنات (التي ما زالت تعلن عن إقامة المزيد منها حتى حول القدس الشرقية قبل وخلال حرب غزة) ولن تعطي الفلسطينيين الاستقلال التام براً وبحراً وجواً. ولذلك تأتي هذه المطالب لإنقاذ نتنياهو وإسرائيل من الأزمة الحادة والوجودية التي أوْجدها السابع من أكتوبر الذي هزّ عرش إسرائيل واطمئنانَها إلى أنها تستطيع كسر إرادة الفلسطينيين إلى الأبد.

وقال بوريل إن نتنياهو صرّح عام 2019 بضرورة دعم حركة «حماس» مادياً ومعنوياً، ولكنه لم يشرح أن رئيس الوزراء قال ذلك «لمنع قيام الدولة الفلسطنية وضرب فتْح بحماس».

لكن ماذا فعلت أوروبا عند إعلان نتنياهو علناً عن نياته الحقيقية وذلك قبل أسابيع قليلة من السابع من أكتوبر حين جاهَر بأن «اتفاق أوسلو قد مات»، ما شكّل نسفاً لأي أمل بإعطاء الفلسطينيين دولة مستقبلية وجاء بمثابة «رصاصة الرحمة» على «رأس أوسلو».

ولا توجد سلطة دولية، أميركية أو أوروبية، تستطيع فرض أي حل على إسرائيل. فقد أوجدت أميركا وحشاً كاسراً وأعطته قوة عسكرية جبارة ونفوذاً سياسياً لدرجة أن السيطرة عليه أصبحت مستحيلة. وتالياً، بحماية إسرائيل من معاقبتها على أي خرق للقوانين الدولية والدفاع عن ارتكابها جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، وبتقدُّم فرنسا وألمانيا إلى الدفاع عنها بوجه الاتهام الموجَّه إليها أمام محكمة العدل الدولية (من جنوب أفريقيا) بارتكاب الإبادة الجماعية بحق فلسطينيي غزة، فهذا يعني أن تل أبيب تستطيع فعل ما تشاء من دون عقاب ولا اكتراث بالقوانين الدولية.

وإذا فكرت الدول الغربية بالطلب من إسرائيل وقف القتال، فإن ذلك فقط لإنقاذها هي التي فشلت حكومتها وجيشها، ليس فقط وقائياً في كشْف ما أعدّت له «حماس» وإحباطه قبل وقوعه أو بحماية المدنيين الإسرائيليين يوم «طوفان الأقصى»، بل لأنها فشلت بتحقيق أهدافها بتدمير الحركة وتحرير الأسرى بعد أكثر من 106 أيام من القتال والدمار الهائل في غزة ومنْع الصواريخ التي مازالت تطلق يومياً على المستوطنات في غلاف غزة وحتى تل أبيب.

ولذلك ترتفع الأصوات الإسرائيلية بطلب إجراء انتخابات مبكرة لإزالة حكم نتنياهو النرجسي والذي أصبح يحارب من أجل بقائه في السلطة. وقد وجد رئيس الوزراء نفسه في وضع حرج لا يستطيع وقف الحرب والاستمرار بالحُكْم خوفاً من متطرفي حكومته الذين هددوه بالاستقالة إذا فعل ذلك، وفي الوقت نفسه لا يرى أي أمل في تحقيق أهدافه المعلنة.

لا يوجد أفق لدولة فلسطينية على أرض فلسطين مادامت إسرائيل تؤيد في غالبيتها تدمير الفلسطينيين ورفض إعطائهم دولة بكل ما للكلمة من معنى. فاتفاق أوسلو - 1 (1993) واتفاق أوسلو - 2 (1995) ماتا كما قال نتنياهو، وأي اتفاق آخر مماثل لن يعيش طويلاً ويهدف فقط لكسب الوقت لوقف الحرب الدائرة وكسر إرادة الفلسطينيين، وهو ما لم ينجح بعد 75 عاماً من القتل والتنكيل والإهانة والإذلال ووضْع الفلسطينيين في سجن مفتوح (غزة) والاعتقالات وقتْل المدنيين وهدم المنازل.

وتالياً، فإن نضوج الإسرائيليين لم يَحِنْ بعد للتعايش مع الفلسطينيين، بل ما حصل في غزة اليوم ليس إلا كشفاً لحقيقة الفكر الصهيوني ونياته بقتل الفلسطينيين وإنهاء وجودهم على أراضٍ ستبقى المطالبة بها حيةً ما داموا على قيد الحياة، لتبقى المقاومة المسلّحة الحل الوحيد لاستعادة الأرض.