لم يكن قرار روسيا والصين في مجلس الأمن بالامتناع عن التصويت بإدانة الحوثيين في اليمن لاعتراضهم السفن المتّجهة إلى إسرائيل والتي تحمل البضائع الإسرائيلية للموانئ في فلسطين المحتلة، وليدَ الصدفة.

فقد اتخذتْ موسكو وبكين الموقفَ نفسه عام 2011 عندما امتنعتا عن التصويت بالموافقة أو الرفض على قرار حماية المدنيين في ليبيا والذي أعطى الضوء الأخضرَ لأميركا وحلفائها لتدمير الدولة وقلْب النظام.

وقد خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدها بأعوام لينتقد أميركا واستغلالها لموقف الرئيس حينها ديمتري ميدفيديف (2008 - 2012) في مجلس الأمن والذي فُسَّر وكأنه إطلاق يد الدول الغربية لبدء الأعمال العسكرية ضد العقيد معمر القذافي.

وتالياً، فإن روسيا تدرك النيات الأميركية بضرب اليمن إذا امتنعتْ عن استخدام حق الفيتو، وهي خطوة كانت متوقَّعة لدرجة أن الحوثيين أخْلوا مراكز عسكرية عدة ومخازن ذخيرة إستراتيجية قبل الضربة الأميركية - البريطانية على أكثر من هدف. فهل وقعت أميركا في الفخ بأملِ جرّها إلى حرب أشمل ترهق كاهل الاقتصاد الغربي وتعمّق تورّطها في حرب أوسع؟

منذ اندلاع حرب غزة، تحوّلت الأنظارُ عما يحدث في أوكرانيا والحرب الكبرى التي شنّتْها أميركا ومعها الـ 50 حليفاً الموجودين في غرفة عمليات مشتركة لإدارة المعركة ضد روسيا في محاولةٍ لكسر إقتصادها وإنهاء وجودها كدولة عظمى، لتبقى مثل أي دولة أخرى إقليمية تتمتع ببعض النفوذ وتملك ترسانة نووية ضخمة لا تستطيع استخدامها، وتخسر سمعتها في اسيا والشرق الأوسط.

ولم يَعُدْ العالم يلتفت لِما يحصل في أوكرانيا بعد قرابة سنتين من الحرب ولا بما صرّحتْ به أميركا قبل أيام قليلة على لسان الناطق الرسمي للبيت الأبيض جون كيربي عن أنها أرسلت الدفعة الأخيرة من المساعدات العسكرية لأوكرانيا وأن الكونغرس رفض مدّ كييف بـ61 مليار دولار، وأن المجموعة الأوروبية لم تتفق على دعم الرئيس فولوديمير زيلينسكي بـ 50 مليار يورو يحتاج إليها لإكمال الحرب.

بل ان زيلينسكي استجدى العالم «لإقراضنا المال وسنعيده بعد الحرب» وأنه «يحارب بالنيابة عن الجميع»، وان «الحرب لن تستمر من دون الدعم الغربي»، ولكن لا حياة لمَن تنادي ولا شهية لدعم أوكرانيا التي تخسر الجغرافيا لمصلحة روسيا.

ومن هنا ذهبتْ بكين وموسكو نحو إستراحة بعدما كان البركان الغربي يدقّ طبول الحرب باتجاه الصين ويتحضّر لها ويعلن إقامة القواعد العسكرية حولها - بالإضافة لِما هو موجود - ويزيد من دعمه العسكري لتايوان التي تمثّل حساسيةً كبرى للصين.

ولا شك في أن من مصلحة الصين وروسيا مشاهدة أميركا تغرق في «مستنقع» الشرق الأوسط وتصطدم مع إيران وحلفائها في حربٍ أكبر بكثير مما هي عليه اليوم وأن تُوِسِّع رقعة الحرب وخصوصاً بعد قصفها لليمن خلال يومين متتاليين.

فأميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا من أكبر المموّلين لحرب إسرائيل بعدما أنشأت جسراً جوياً وبحرياً من 230 طائرة و30 سفينة محمّلة بالذخائر لإسرائيل التي تطلب أيضاً دعماً مالياً لمواجهة اقتصادها المتدهور الذي مُني بخسارة تقترب من 60 مليار دولار، بحسب صحيفة «هآرتس» نتيجة الحرب الدائرة في غزة منذ ثلاثة أشهر ونيف.

وتراقب روسيا والصين كيف يشتبك «حزب الله» مع إسرائيل، وكيف تضرب المقاومة القواعد العسكرية الأميركية في العراق وسورية، وكيف يعترض الحوثيون السفنَ المتّجهة لإسرائيل في ممرٍّ بحري دولي مثل باب المندب، وكيف تتعرّض ناقلاتُ نفطٍ في بحر الهند إلى ضرباتِ المسيَّرات الانتحارية، وكيف تحتجز إيران ناقلةَ نفط - كانت تملكها إيران سابقاً وصادرتْها أميركا العام الماضي وباعتْها لشركة بريطانية لنقلها 980.000 طن من النفط الإيراني الذي يخضع لعقوبات أحادية - وهي محمَّلة بـ 145.000 طن من النفط.

إذاً فإن شبحَ حربٍ كبرى يخيّم على الشرق الأوسط الذي يسير على حافة الهاوية من دون أن يقع فيها فقط لأن حلفاء غزة لا يرغبون بحرف النظر عما ترتكبه إسرائيل من جرائم ولا سيما وهي تواجه أكبر أزمة في تاريخها بمواجهة محكمة العدل الدولية التي من المتوقع أن تضرب سمعة إسرائيل، التي يشار إليها بالكيان المجرم، وحلفائها خصوصاً أميركا، وسط توقعات بأن تطالب المحكمة بوقف الحرب. وتريد إيران وحلفاؤها إبقاء الاهتمام الدولي حول غزة لأن هذا يخدم القضية الفلسطينية التي يُراد لها أن تبقى المحور الأساسي.

وقد وقعتْ واشنطن في الفخ، فنجحتْ إيران في عسْكرة البحر الأحمر بعدما رفعت أميركا وبريطانيا من مستوى التهديد لتوسيع الحرب في ضوء إعلان الحوثيين أن منعَ المرور أصبح يشمل ليس فقط السفن الإسرائيلية، بل أيضا البريطانية والأميركية.

وهكذا انفلشتْ المواجهةُ لتتحول مباشرة بين الدول العظمى، أميركا وبريطانيا، في مواجهة الحوثيين في أفقر دولة في الشرق الأوسط، وهؤلاء فرضوا قواعد اشتباك جديدة في باب المندب. وهذا يسرّ إسرائيل التي طالما تمنّتْ انغماسَ أميركا في الحرب إلى جانبها، وكذلك روسيا والصين لأن وقفَ الحرب ليس مثل انطلاقتها، ونتائجها غير متوقَّعة ولكنها ستفشل بفرض الردع حتماً، وهذا من شأنه إظهار ضعف وليس قوة أميركا وحلفائها.

كان الأجدى لأميركا (وحلفائها) وقف الحرب على غزة بدل الوقوع في أفخاخ عدة تُظْهِرُها ضعيفةً إذا فشلتْ، وهو المتوقَّع، في منْع الحوثيين من التصدي للسفن التجارية بحسب قواعد الاشتباك الجديدة.

فالولايات المتحدة تدافع عن منظومتها وهيمنتها على البحار والعالم ولا تتقبل خسارتها المدوية أمام روسيا والصين، وتعتقد أنها بضربها الحوثيين في اليمن فهي تعيد إظهار قوتها. ولكنها تقف اليوم في مواجهة إيران وحلفائها الذين يتقبّلون الخسائر ويسيطرون على باب المندب ومضيق هرمز - بعدما كانت الممرات البحرية الدولية تحت سيطرة الولايات المتحدة وبريطانيا لعقود - ولديهم باع طويلة في حروب الاستنزاف ويملكون الجغرافيا لإزعاج واشنطن وتوجيه الضربات لهيْبتها.

وكلما ردّتْ أميركا على ضربات حلفاء غزة، كلما نظرتْ إليها روسيا والصين بعيون التشجيع والحماسة لرؤية واشنطن وسمعتها تتكسّر على شواطئ غزة وباب المندب وبلاد ما بين النهرين ومضيق هرمز والبحر الهندي والبحر العربي.

ولا يُراد للمعركة الانحرافَ عن بوصلتها الأساسية ليبقى المحور حول غزة وفلسطين التي تسبّبت بخسارةٍ (للسمعة وخسارة معنوية) فادحة لإسرائيل ولأميركا وحلفائها الذين يدعمونها والذين يقفون أمام محكمة العدل الدولية لأنهم دَعَموا الحرب ولم يفعلوا شيئاً لوقف إبادة الفلسطينيين في غزة.

ومهما كان قرار المحكمة فإن الشعوب قالت كلمتها ضد إسرائيل وأميركا التي تقف على مفترق طرقٍ تاريخي يطيح بهيمنتها الأحادية، بينما تقف الصين وروسيا في الظل، ضاحكتيْن ومتفرّجتيْن بصمتٍ وسرورٍ لغرق أميركا في وُحول الشرق الأوسط.