مما لا شك فيه أن روسيا احتلت أراضي دولة مجاورة، وهي تقاتل لضم مقاطعات أوكرانية إليها، ولذلك زجت بقواتها في خضم المعركة لتحقيق أهدافها.

وبالنسبة إلى العديد من المناهضين لحروب أميركا واحتلال قواتها لدول أخرى ومسؤولية البنتاغون والاستخبارات الأميركية عن الانقلابات على أنظمة عدة حول العالم عبر عقود خلت، يُشكل الاحتلال الروسي خطوة محرجة ويدافع عنها البعض الآخر... فلماذا ما لا يحق لأميركا ان تفعله - وتصر على فعله غير آبهة بالنتائج والأضرار - يحق لروسيا فعله في أوكرانيا؟

إنها ليست قضية مَن يخالف القانون الدولي أو مقررات مجلس الأمن، لأن الدول العظمى ضربت عرض الحائط بكل القوانين الدولية ووجدت التبريرات التي تريحها لاجتياح الدول لتحقيق مآربها وبسط نفوذها خارج حدودها. وقد أدت هذه الأعمال الحربية أو الانقلابات إلى وقوع أعداد هائلة من الخسائر البشرية وإيجاد حال عدم استقرار في مناطق عدة من العالم.

ويقول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، منتقداً وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، انه في «عام 2009، داعش لم يكن موجوداً على الخريطة وليبيا كانت مستقرة ومصر تعيش في سلام وانخفض مستوى العنف في العراق، وسورية تحت السيطرة، وإيران محاصَرة بالعقوبات الخانقة».

ويضيف «بعد 4 سنوات من قيادة كلينتون، ماذا حصل؟ انتشر داعش في كل المنطقة (الشرق أوسطية) وحول العالم. أصبحت ليبيا في خراب وسفيرنا تُرك من دون مساعدة ليُقتل هناك.

وسيطر الإخوان على مصر مما دفع العسكر للتدخل والسيطرة على زمام الأمور. أما العراق فأصبح في فوضى تامة، وإيران ذهبت في طريق امتلاكها سلاح نووي. أما سورية فانخرطت بحرب أهلية وأصبحت هناك أزمة لاجئين تصيب الغرب».

وتابع «بعد 15عاماً من حروب الشرق الأوسط، وبعد انفاق تريليونات من الدولارات وإزهاق الأرواح، لقد زعزعنا استقرار الشرق الأوسط. لم يجب ان نحتل الدول ولا العراق لأن وجود أسلحة دمار شامل أكذوبة وكانوا (القادة الأميركيون) يعرفون انها لم تكن موجودة».

وما قاله ترامب، أكده رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، الذي قاد بلاده إلى حرب العراق، معترفاً بعد 20 عاماً بانه أخطأ. لكن مَن يحاسب هؤلاء القادة في المجتمع الغربي الذي تقوده أميركا؟... لا أحد.

وقد غفل ترامب عن القول انه أعلن عن رغبته، وأيّد أقواله بالفعل، بالاستيلاء على النفط السوري وإبقاء قواته في سورية، وأصدر قرار اغتيال اللواء قاسم سليماني أثناء قيامه بمهمة رسمية في العراق بطلب من رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي.

كذلك رفض سحب القوات الأميركية من العراق بعد أن هدد بمصادرة أموال النفط العراقي.

وانسحب من الاتفاق النووي عام 2018 الذي وقّع عليه سلفه باراك أوباما واستخدم سلاح العقوبات ضد إيران إلى أقصى حدٍ ممكن لاخضاعها بغض النظر عن صناعة القنبلة النووية من عدمها.

اللائحة تطول عما فعله الرؤساء جورج بوش وأوباما وترامب ومَن أتى قبلهم ومَن يأتي بعدهم.

فالإدراة الأميركية تعتبر نفسها، وحلفاءها، فوق القانون ولا تعترف بالمحاسبة لدرجة أن إدارة ترامب فرضت عقوبات على كبير القضاة في محكمة العدل الدولية وتمنع أن يُحاكم أي جندي من أي دولة مهما فعل.

وتؤيد الإدارة الأميركية ما تفعله إسرائيل من قصف واغتيال والقيام بعمليات لجهاز «الموساد» في أراضٍ عدة واحتلالها لفلسطين ولأراضٍ لبنانية وسورية تحت عنوان «الحق بالدفاع عن نفسها».

فمنذ عقود، ومن دون الحاجة للذهاب إلى تاريخ إلقاء أميركا القنابل النووية على اليابان، التي كانت استسلمت أو إلى حرب فيتنام التي قُتل فيها الملايين والانقلابات المتعددة حول العالم، تفعل الولايات المتحدة ما تريد، خصوصاً منذ أن انتهت الحرب العالمية الثانية حين سعت إلى بسط نفوذها على أوروبا بالدرجة الأولى، وعلى العالم بالدرجة الثانية وصولاً إلى محاربة الاتحاد السوفياتي.

وتَعتبر أميركا ان معركتها اليوم في أوكرانيا، ليست لمنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من السيطرة على بضعة آلاف من الكيلومترات، بل هي فرصة لاستعادة القيادة على أوروبا - كما قال الرئيس جو بايدن - وتنشيط ذاكرة الدول أن الولايات المتحدة قائدة العالم، وتوجيه رسالة إلى الصين الصاعدة.

إلا أن واشنطن لم تدرك أن جر روسيا إلى حرب طويلة في أوكرانيا، يعني انغماس الولايات المتحدة أيضاً في حرب طويلة مكلفة وغير مضمونة النتائج، خصوصاً بعد الهجوم الموعود الذي تدفع فيه أوكرانيا كقوة مهاجمة ثمناً باهظاً.

فقد قال قائد القوات المشتركة الأميركية مارك ميلي، ان 60 ألف أوكراني تدربوا في 33 دولة، منتشرين حول 3 قارات.

إلا ان ما يحصل للجيش الأوكراني في هجومه تماماً كما حصل للجيش الروسي في الأشهر الأولى من بدء المعركة. وتالياً فإن انكسار رأس الحربة الأوكرانية يعني خسارة أميركا وحلفائها على أرض المعركة.

ولهذه النتائج تبعات جمة على الصعيد الدولي. فخسارة أميركا وحلفائها وصمود روسيا يدعم سقوط الأحادية على العالم من المارد الذي لا يستطيع أحد وقفه، وهذا ما يشجع الدول التي بدأت تخرج من العباءة الأميركية وتكسر الصمت الطويل باتهام أميركا بأنها هي التي فتحت الأبواب لخرق كل القوانين الدولية، من دون التبرير لروسيا لما فعلته في أوكرانيا.

إذاً ما فعلتْه أميركا لا يعني أن لروسيا الحق في اتباع الخطوات الأميركية. لكن من يستطيع وقف الولايات المتحدة عن استباحة القوانين الدولية؟ فقط خسارتها في أوكرانيا واعتراف الدول الكبرى بضرورة العودة إلى طاولة المفاوضات العالمية لإعادة القوانين إلى مسارها الأول والالتزام بها لأن البديل هو شريعة القوي الذي يستطيع قتل الضعيف واحتلال بلده والعبث فيه.

بالإضافة إلى ذلك، فقد أعلن الرئيس فلاديمير بوتين - وأخرج الأوراق الموقّعة من قبل كبير المفاوضين الأوكرانيين خلال وساطة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان - أمام رؤساء الدول الأفريقية الذين يسعون لوقف القتال في أوكرانيا، انه كان قد اتُّفق على معاهدة سلام من 18 فقرة خلال ابريل 2022 (عندما سحب قواته من ضواحي كييف وكذلك مدرعاته بطول 67 كيلومتراً) وقبل سحب جميع القوات إلى حدود ما قبل شن الغزو مقابل أن تتعهد أوكرانيا «بعدم السعي للحصول على عضوية (حلف) الناتو، وبدلاً من ذلك تتلقى ضمانات أمنية من عدد من البلدان».

إلا أن الضغط الغربي أحبط المساعي خصوصاً خلال زيارة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى كييف في 9 أبريل 2022، الذي طلب صراحة بالتوقف عن التفاوض.

وقد أعلنت أميركا بعدها بصراحة، ان هدفها هو كسر روسيا واقتصادها، وأكد بايدن ان الحرب تهدف ليس لتحرير أوكرانيا بل من أجل (وحدة) «الناتو» ومن أجل أوروبا الشرقية.

إذاً فإن الغرب لم يعط أي قيمة للخسائر البشرية الأوكرانية (ولا الروسية طبعاً) ولدمار البنية التحتية الأوكرانية. ولكن الغرب لا يستطيع تحقيق مراده من دون موافقة القادة الأوكرانيين على استمرار الحرب.

ولا يُستبعد ان يزاح أي مسؤول أوكراني مهما علا شأنه في حال رفض القتال وأراد وضع حد له.

ولهذه الأسباب، فإن أكثر مَن يقفون على الحياد أو لا يصطفون مع أوكرانيا ولا يقفون ضدها، يفعلون ذلك لتمنياتهم بتلقين أميركا الدرس اللازم، هي التي فوتت الفرصة لوقف الحرب ووضع حد لسياستها التدميرية.

وهذا لا ينفع إلا بخسارة أوكرانيا التي - مثلما حدث مع دول أوروبا الشرقية مباشرة بعد «البريسترويكا» عام 1991 - هرولوا للانضمام إلى الحلف الغربي، آملين بتحسين ظروف عيشهم ودعم الدول الغربية لهم خصوصاً الاتحاد الأوروبي.

لا مبرر لأميركا ولا حتى لروسيا في احتلال أي دولة. إلا أن الانتصار الأميركي يعني ان الهيمنة على العالم باقية وتتمدد والانقلابات محتملة، ومعاقبة الشعوب قائمة وأن الحرب المقبلة تتحضر ضدّ الصين.

ولهذا فان أكثر دول العالم - التي من الواضح كانت تنوء تحت السيطرة الأميركية المجحفة - لم ينضموا إلى الحلف الأميركي لمعاقبة روسيا.

وهذا دليل على أن الدول، بأكثرها، تتمنى إما هزيمة أميركا أو بروز عالم متعدد القطب ليرتاح الجميع من الهيمنة والقتل والعقوبات التي تفرضها على كل مَن لا يطيعها أو يقف في وجه سياستها، أو تريد العيش بسلام وإنهاء عهد الحروب الذي أرهقَ العالم.