تطلق واشنطن رسائل متباينة في اتجاه بكين، فمن جهةٍ توحي لها بأنها «عدو» يجب الاستعداد لمحاربته، ومن جهة أخرى تدعو إلى الاستعداد لبث الدفء في العلاقات، بحسب ما صدر أخيراً بعد اللقاء الذي جمع الرئيسين شي جينبينغ وجو بايدن على هامش قمة مجموعة العشرين في بالي منتصف نوفمبر الماضي.

هذه «الازدواجية» تجعل من البدهي السؤال: هل تتجه أميركا نحو الحرب مع عملاق الصناعة وجرّ التنين الصيني إلى مخالب النسر الأميركي أم في الأمر محاولة لمنع التقارب بين الصين وروسيا وتعاونهما؟

وصلت العلاقة الصينية - الأميركية إلى أدنى مستوياتها في ظل إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، فتخللتْها حرب تجارية وعقوبات على شركات التكنولوجيا الصينية، التي أضاف إليها بايدن أكثر من 110 كيانات صينية ليصل العدد على لائحة العقوبات إلى نحو 600.

في المقابل، فرضت الصين تعريفات جمركية على أكثر من 100 مليار دولار من البضائع الأميركية، رداً على مكتب الممثل التجاري الأميركي الذي فرض تعريفات جمركية على ما قيمته 360 ملياراً من البضائع الصينية خلال إدارة ترامب.

لكن بعد اجتماع بالي، دعا بايدن إلى التعاون في مجال تغيير المناخ واستقرار الاقتصاد العالمي والأمن الصحي والغذائي العالمي وتنظيم الخلافات والإبتعاد عن الصراع والعمل على تطوير العلاقات.

وأكدت الإدارة الأميركية أنها لا تسعى لتغيير النظام في الصين ولا للبدء بحرب باردة، ولا تؤيد استقلال تايوان أو قطع العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية، ولا تحبّذ أن تتحوّل المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية إلى صراع.

وكانت وزارة الخارجية الأميركية أعلنت عن إلغاء محادثات تنسيق الدفاع والتعاون ضد الجرائم العابرة للحدود ومكافحة المخدرات وتغيير المناخ والسياسات الدفاعية الاستشارية البحرية.

ولم تتوقف الولايات المتحدة عن استفزاز الصين، خصوصاً بعد زيارة رئيسة مجلس النواب (السابقة) نانسي بيلوسي في أغسطس الماضي إلى تايوان.

وهذا ما دفع بكين إلى مناورات بحرية عسكرية أغلقت فيها الملاحة أمام الجزيرة وامتدت لأسابيع لإظهار قوتها وتصميمها على حماية وحدة أراضيها.

وأرادت بذلك تأكيد قدرتها على مواجهة أي قوة أخرى في المنطقة وإن كانت مدعومة من الولايات المتحدة التي تملك عشرات القواعد البحرية في الدول المطلّة على بحر الصين ودول آسيوية أخرى مجاورة.

وترفع واشنطن في وجه بكين، ليس فقط ورقة تايوان، بل لديها ورقة إقليم كسينجيانغ، الذي يقطنه الإيغور، حيث تتهم واشنطن بكين بمخالفة «حقوق الإنسان» واستغلال مسلمي الإقليم في اليد العاملة الرخيصة، وهي الورقة التي قالت عنها إدارة وزير الخارجية السابق ركس تيليرسون، إنها ترفعها في وجه خصومها (وليس حلفاءها) مثل روسيا وإيران وكوريا الشمالية والصين - عند الحاجة لفرض العقوبات أو للتدخل عسكرياً ضد الدول التي ترفض الخضوع للهيمنة الأميركية.

لقد أرسلت الولايات المتحدة إشارات متضاربة للصين: فهي تارة على استعداد للدفاع عن تايوان عسكرياً، كما صرح بايدن، وتوافق على بيع الجزيرة أسلحة متقدمة بمبلغ مليار ومئة مليون دولار، وتارة أخرى تعلن ان موقفها ثابت حيال عدم الاعتراف بتايوان كدولة مستقلة بل بـ «الصين الواحدة».

ولا تأتي أميركا بشيء جديد إذا نظرنا إلى القانون الدولي. فقبل أكثر من 50 عاماً، صوّت أعضاء الأمم المتحدة لطرد تايوان وقبول جمهورية الصين الشعبية (القرار 2758) كممثلة وحيدة للصين.

وإنتظرت الولايات المتحدة عشر سنوات، لغاية عام 1979، لتعترف ببكين بعدما فشلت كل محاولاتها لإبقاء تايوان في عصبة الامم المتحدة. إلا انها أبقت قوات عسكرية في الجزيرة التي يبلغ عدد سكانها نحو 23 مليون نسمة.

وتوظّف واشنطن الإعلام الغربي، كأحد وسائل الضغط والحرب الناعمة التي تديرها ببراعة. فقد كتبت الصحف الاسترالية أنه «حان الوقت للتحضر لحرب مع الصين».

وأوردت جامعة Air University في إحدى دراساتها أن التحضير يتم لحرب مع الصين بين 2025 و2032 بسبب عدم اليقين من نياتها.

وهذا سيجبر دول شرق آسيا وأوقيانوسيا - بحسب الدراسة - على الإختيار إلى أي صف يجب الإنحياز لأنه لا يمكن لهذه الدول أن تكون ودودة لبكين وواشنطن في الوقت نفسه.

وتفيد دراسات غربية عدة بان الصين تخطّط لتوسيع مجال نفوذها من خلال مبادراتِ بناء الطرق السريعة والسكك الحديد والمطارات والموانئ في أكثر من نصف الكرة الأرضية ضمن مشروع «الحزام والطريق»، وتالياً فهي تعمل لتصبح القوة العظمى الأبرز في العالم.

ونجحتْ بكين في تقديم نموذج مختلف كلياً عن واشنطن من دون الحاجة لخوض أي حرب أو القيام باجتياح عسكري، لأي دولة، كما فعلت واشنطن لعقود.

وهذا ما يجذب سكان العالم خصوصاً الدول التي عانت من حروب أميركا واستعمار أوروبا والتمييز العنصري المستمر.

وهذا ما أظهره منسق العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، بوصفه الغرب بأنه «الحديقة الجميلة (المتقدمة) وبقية العالم يمثّل الغابة» (المتخلفة).

لكن جلّ ما تريده الولايات المتحدة في الوقت الراهن هو التأكد من أن الصين تدافع عن روسيا في المَحافل الدولية فقط من دون أن تمدّها بالأسلحة المتطورة.

فتحدي موسكو لواشنطن أثناء الحرب الباردة في الخمسينيات أعطى بكين القدرة على التطور اقتصادياً وعسكرياً بعيداً عن الصراع والاستنزاف الذي أصاب الاتحاد السوفياتي السابق.

وها هي بكين تستفيد مجدداً من الحرب الروسية - الأميركية على الأراضي الأوكرانية من دون ان تتدخّل بإمكاناتها العسكرية.

فهي تشتري الطاقة الروسية بأقلّ من 30 في المئة لسعر برميل النفط وتستفيد من العقوبات الأميركية على روسيا وإيران لازدهار صناعتها وخفض سعر منتجاتها وجذب الشركات الكبرى لتعمل بتسهيلات كبيرة.

لن تذهب أميركا للحرب ضد الصين لأن حربها ضد روسيا مكلفة جداً ليس فقط عليها ولكن أيضاً على حلفائها الأوروبيين.

ولن تجد واشنطن الدعمَ اللوجستي اللازم للحرب مع بكين من حلفائها الأوروبيين المنهَكين، كما هي الحال بعد دعم الدول الأوروبية لأوكرانيا، وتخلّيها عن مصدر الطاقة الروسي المهمّ والرخيص.

وتالياً، فان الولايات المتحدة بحاجة لبناء قوة آسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية لتكون القاعدة العسكرية التي تنطلق منها الحرب على الصين حين تدعو الحاجة في السنوات المقبلة. وسلاح العقوبات هو الوحيد الذي تستطيع الولايات المتحدة التهويل به في وجه الصين.

ومهما بلغ الدعم العسكري الأميركي لتايوان، فإنه يبقى نقطة في بحر إمكانات الصين العسكرية.

وحتى ولو استبدلت أميركا الصفقة الفرنسية للغواصات مع أستراليا ليصبح لديها غواصات نووية تهدد بها بكين، ومهما جمعت أميركا من قوات قريبة من الصين، إلا أن الحرب النووية ليست الخيار المطروح لكل الدول التي تملك هذا السلاح، بمن فيها بكين.

ولهذا فإن واشنطن تحتاج لوقت طويل للاستعداد لأي مواجهة ضد بكين.

إذاً، التهديد والوعيد الأميركي للصين ما هو إلا انعكاس لخوف واشنطن من نفوذ بكين المتعاظم، ومن التلاحم الممكن بين التنين الصيني والدب الروسي، رغم أن لدى بكين سياسة ثابتة في إقامة علاقات مع الجميع والدفْع في اتجاه التطور الاقتصادي من دون أن يكون لها أعداء أقوياء أو ضعفاء.

فهي تسعى لتطوير الدول الفقيرة وتقدّم التكنولوجيا المتقدمة للدول الغنية كجزء من السور الافتراضي الذي تبنيه أمام كل مَن يريد الإضرار بها، بما في ذلك الولايات المتحدة.

وتالياً فإن بكين بمنأى عن التهديد الأميركي الجدي في السنوات المقبلة والذي لن يتعدى إبراز عضلات النسر الأميركي المفتولة أمام التنين الصيني الجبّار في الوقت الراهن... إنها زوبعة أميركية داخل الفنجان الصيني.