عقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره العشرين والذي يستمرّ لأسبوع، حيث سيعاد تأكيد استمرار الرئيس شي جينبينغ في منصبه لفترة ثالثة تمتدّ حتى العام 2027 وتُرسم خريطةُ طريقِ السياسات الداخلية والخارجية للبلاد للسنوات المقبلة.

ويأتي هذا المؤتمر في ظل حربٍ ضارية تُشن في أوكرانيا وتتمحور في عمقها حول إزاحة أميركا عن عرش الهيمنة العالمية، من دون أن يكون لأي دولة أخرى - كروسيا أو الصين مثلاً - الرغبة بالحلول مكانها.

وكذلك يُعقد في ظل استفزازاتٍ أميركية للصين في تايوان كان أبرزها زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وبيع أميركا لحكومة الجزيرة الصينية أسلحةً بقيمة 1.1 مليار دولار في وقت تعلن واشنطن - كلامياً - أن تايون جزء من الصين، وهذا ما أكده الرئيس شي في افتتاحية خطابه. إلا أن العداء ضد بكين بدأ يظهر على السطح في شكل أكثر حدة بهدف دفع الصين للابتعاد عن روسيا وعدم دعمها في حربها ضد دول حلف «الناتو»، تجنباً لفرض العقوبات الاقتصادية عليها. فهل تستطيع بكين الصمود في وجه العاصفة الغربية كما فعلت لعقودٍ خلت؟

بدأت سياسةُ الإصلاح الداخلي والانفتاح الصيني على العالم الخارجي منذ ديسمبر عام 1978 عندما أعلن الرئيس دينغ شياو بينغ سياسةَ «الباب المفتوح» أمام الشركات والاستثمارات الأجنبية. وكانت تلك الخطوة الأولى منذ عهد الكومينتانغ (وهو الحزب الوحيد الذي حكم الصين من عام 1927 حتى 1949) في إطارِ سياسة الدفع نحو النمو الاقتصادي والخروج من مستوى الفقر. ومنذ ذلك الوقت، أنفقت الصين 224 مليار دولار ونقلت ملايين الأسر إلى بيئة زراعية وتربوية واقتصادية متطورة لُتخْرِج 770 مليون شخص من الفقر المُدْقع وتعلن عام 2020 أنها قضت على الفقر كاملاً.

وتشكل الصين محور اهتمام قادة العالم لصعودها الاقتصادي والعلمي والصناعي السريع في ضوء تقدُّم البلاد وتدهور الصناعة الأوروبية التي أصبحت تفتقر إلى الطاقة الروسية الرخيصة والمتدفّقة عبر خمسة أنابيب تغذّي احتياجات دول القارة الأوروبية. وتالياً فقدت أوروبا مكانتها الرائدة المُنافِسة بتأثُّرها بالعقوبات التي فرضتْها هي نفسها على مصدر الطاقة الروسي لتحل الصين مكان القارة الأوروبية على المستوى الصناعي وتستوعب النفط والغاز الروسي الرخيص.

وهذا الواقع أغضب دول الغرب التي تجد نفسها أمام دولة صينية عظمى تملك أسلحة نووية وأخرى متطورة ونظام «بيدو» للملاحة عبر الأقمار الاصطناعية (المُنافِس لـGPS الأميركي) واقتصاداً ضخماً صاعداً وصناعة متطورة ووسائل دفع بالبطاقة الممغنطة (1.3 تريليون دولار لـ800 مليون بطاقة) لبطاقة «مير» التي يستخدمها اليوم الروس (بعد أن أوقفت فيزا، ماستر كارد وأميركان إكسبرس عملياتها في روسيا). وعززت بكين مشاريع السياحة والسفر وبناء البنية التحتية ووصلت المدن بشبكة القطارات العالمية السريعة الممتدة إلى 40 ألف كيلومتر وأنشأت 250 مطاراً ليتضاعف عدد المسافرين بسرعة كبيرة.

وفي ظل ضعف الديموقراطيات الغربية، دخلتْ بكين من باب إيجاد نموذج مختلف عن نموذج الغرب الذي فرض من خلال الهيمنة الأحادية على العالم. ويعتمد النظام السياسي الصيني على الحزب الواحد ويقدّم نموذجاً سياسياً يمنع طغيان الغالبية أو الأقلية أو طغيان وسيطرة الأغنياء الذين يستخدمون سلطتهم ويمسكون بسياسة الدولة كما يحدث في الغرب حيث تسيطر شركات الطاقة وتصنيع السلاح والإعلام على صنع القرار وآلياته لتصبح النخبة الحاكمة هي المقرِّرة ضمن الدولة العميقة.

ولا تهدف بكين لتصدير «نموذج الصين»، كما يفعل الغرب الذي يستخدم سلاح «حقوق الإنسان» ومبدأ «الديموقراطية» ضدّ الدول التي ترفض الإملاءات أو الخضوع حيث تخرج من القبّعة الغربية التهديدات بعدم احترام مبادئ الأمم المتحدة وحرية للتعبير والتظاهر وإبداء الرأي، هي المبادئ التي لا تُطبَّق على الغرب (احتجاجات في فرنسا مثلاً) أو إسرائيل التي - وبحماية الأنظمة الغربية المُهيمنة - تقتل الفلسطينيين وتعتقل القاصرين من دون محاكمة ومن دون أي اعتراض من القادة الغربيين، وتحتلّ الأرض (في سورية ولبنان) من دون إعطاء أي قيمة لقرارات الأمم المتحدة. بل إن الصين تعتمد على مراقبة الدول لأدائها وتعطيهم الحرية بالتقرب منها والقبول بشراكة اقتصادية معها إذا أرادوا ذلك.

وبينما كانت أميركا والاتحاد السوفياتي منشغليْن في تأمين نفقات الحرب الباردة الهائلة وكذلك في سباق التسلح وتكديس آلاف الصواريخ النووية، وفيما تنهمك كل من واشنطن وموسكو بالحرب الدائرة في أوكرانيا منذ بداية السنة الحالية، عملت بكين على تطوير اقتصادها وتعويض التضخم الذي بلغ 3 في المئة جراء نتائج «كوفيد -19»، وهي نسبة ضئيلة جداً بالنسبة لما تشهده أوروبا والعالم من تضخّم في هذه المرحلة المفتوحة على الأزمات الدولية.

وبينما تنفق أميركا التريليونات على حروبها في الأعوام العشرين الماضية (حرب أفغانستان والعراق وسورية)، يَمْضي الرئيس شي جينبينغ بسياسة مكافحة الفساد والحدّ من قوة الشركات العملاقة وتعزيز قطاع الدولة وإظهار التدمير الاجتماعي الذي أنْتجه النظام الغربي الرأسمالي الليبرالي، وتوزيع الدخل وتوسيع الخدمات العامة وإظهار تفوق «النموذج الصيني» عبر سياسة «الرخاء المشترك» بتقوية البنك الآسيوي الدولي (AIIB) لتمويل إنشاء الطرق والسكة الحديد وشبكات الكهرباء والتنمية في البلدان الفقيرة، لتصبح آسيا مركز الثروة في العالم. وكذلك تعمل بكين على «طريق الحرير» المعروف بمشروع «الحزام والطريق» ليتحول إلى أكبر مشروع بنى تحتية في تاريخ البشرية تشارك فيه 123 دولة لربط القارات ببعضها البعض. وأيضاً مشروع «عقد اللؤلؤ» للتبادل التجاري البحري بين الدول التي تطلّ على المياه، وتقديم حماية عسكرية وتشبيك ديبلوماسي من الصين إلى القارة الأفريقية لتثبيت القوة الصينية الناعمة، وهي السياسات التي مكّنت الصين من تكوين ثروة هائلة لتظهر للعالم مزايا المؤسسات الأخلاقية والمالية للنظام السياسي.

وفي ظل سياسة تحصين الداخل الصيني، تستطيع بكين حماية البلاد من التدخل الخارجي الذي برع فيه الغرب من خلال التنظيمات غير الحكومية (NGO) والثورات الملوَّنة لتغيير الأنظمة التي تشكل تهديداً للهيمنة الأميركية. وهذا ما تدركه جيداً الصين التي لا تريد مواجهة العقوبات الغربية بدعمها العلني للحرب الروسية - الأميركية في أوكرانيا، ولا تريد فرض نفسها ومشاريعها المتطورة على دولٍ تعتبرها واشنطن من ضمن مناطق نفوذها حتى ولو قدّمت مشاريع لبناء القدرات التحتية المهترئة مثلما فعلت في العراق ولبنان وسورية ودول أفريقيا لتصطدم بجدار أميركا المستاء والمعارض، خصوصاً بعد انفتاح إيران على دول آسيا وبالأخص روسيا والصين، لتضم بكين بسياستها الناعمة الدول الرافضة للهيمنة الأميركية.

واستطاع جينبينغ السير بين الألغام من دون أن يُظْهِر أي خضوع أو خوف من واشنطن التي تلوّح باستمرار بدعمها لتايوان كورقةٍ للجم بكين عن تَجاوُز الخطوط الحمر الأميركية. إلا أن الشعوب التي قرّرت مواجهة أميركا مازالت تعوّل على تَصاعُد قوة الصين ومواجهتها للهيمنة الأحادية الأميركية ليتحرّر العالم من سلطة الدولة الواحدة واللحاق بنموذج الصين الاقتصادي دون تهديدٍ بالعقوبات أو بقطع الدول عن استخدام النظام المصرفي العالمي (SWIFT) أو بالاحتلالات العسكرية للدول الممانعة.

تقف اليوم الصين على مفترق طرق في عالم يتحدى الولايات المتحدة ولا تستطيع فيه البقاء على الحياد أو الوقوف في وجه أميركا بخجل. لقد بنت الصين سورها العظيم في القرن الرابع عشر لتعزل نفسها عن العالم لأن ثقافتها العريقة القديمة لا تحتمل سياسة التوسع التي اتبعتها الامبراطوريات القديمة.

أما اليوم فالصين مُطالَبة بلعب دور أكثر ديناميكية لتقدّم نموذجَها المختلف عما عرفه العالم من استعمارٍ وحروب في النموذج الغربي. فهل يُخْرِج جينبينغ الصين من سورها أو يبقى داخل السور؟ يبدو أن الصين تفضّل إخراج رأسها خارج السور بخجل. فهي تخشى العقوبات الغربية ولكنها تتفهّم الخطوة الروسية من دون أن تدعم الكرملين بالحرب، وهي لا تقف مع أميركا ولا تتردّد بانتقاد سياستها المدمّرة تجاه العالم. وبالتالي، يبدو أن التنين الصيني سيستمر بالاعتماد على صبره الطويل والمحافظة على مستوى «المشاكل صفر» ولكنه يتعلّم من مدرسة الحروب الدائرة ليتحضّر لأيّ حرب مستقبلية إذا وجب خوضَها تحت عنوان إظهار القوة من دون الحاجة لاستخدامها.