غفل عن قيادة الأركان الروسية، أن «فنّ الحرب خدعة»، وأن الحرب ليست مع الجيش الأوكراني بل مع الولايات المتحدة ومعها الدول الـ29 في حلف الناتو، وأن الضربات تحت الحزام... مسموحة.

لم تتردد وكالات الاستخبارات الأميركية ولا البنتاغون ولا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في تأكيد أن واشنطن هي التي تقف وراء هزيمة الجيش الروسي في خاركيف الشمالية والهجوم على مقاطعة خيرسون الجنوبية، بينما كانت القيادة الروسية منشغلة بمعارك مناطق دونباس الساخنة.

ماذا وراء الخسارة الروسية في معركة خاركيف التي أسمعت العالم صداها رغم أن موسكو مازالت تحتل خُمْس الأراضي الأوكرانية وبعيدة عن وصفها بـ «الانهزام»؟

انسحبت القوات الروسية من مناطق ايزيوم وكوبيانسك وبالاكليا في خاركيف، وهي مناطق تُعتبر مركزَ نقلٍ مهماً وطريق إمداد القوات الروسية لقربها من الحدود.

وتخلّت موسكو عن آلاف الكيلومترات المربّعة من الأراضي التي ينطق غالبية سكانها باللغة الروسية.

وكانت هناك أخبار تتحدث، قبل المعركة، عن بدء تجمُّعٍ عسكري أوكراني في المنطقة للقيام بهجوم مضاد واستعادة بعض الأراضي التي تسيطر عليها القوات الروسية.

من الواضح أن القيادة العسكرية الروسية لم تأخذ في الاعتبار ذلك، ولم تدفع بقواتِ دفاع لصدّ الهجوم أو تعتمد على سلاح الطيران الحربي والمسيَّر، لضرب «رأس الهجوم» وتشتيت القوات الأوكرانية.

ودلّ هذا التطور على فشلٍ استخباراتي روسي لا يُستهان به، خصوصاً أن قيادة الأركان لم تأخذ في الحسبان أنها لا تواجه قوات أوكرانية ضعيفة، بل تحارب العشرات من أجهزة الاستخبارات الغربية المجتمعة في قاعدة رامشتاين في ألمانيا وتتمتّع برؤية من خلال الأقمار الاصطناعية وعناصر بشرية من القوات الخاصة تعمل على إيجاد «الثغرات» لتسجيل هزيمة ولو تكتيكية للجيش الروسي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن موسكو تجابه قوات أوكرانية مستعدة للقتال من دون ان تأبه إذا كانت قيادتها محلية أو غربية، وتملك روحية القتال وقضية تستميت للدفاع عنها لرفع معنويات الجيش، ولديها قدرة استيعاب للخسائر البشرية، مثل روسيا، مهما ارتفعت الأعداد.

وأظهرت المعلومات من أرض المعركة، أن خط الدفاع الروسي كان هشاً... إذ كان مؤلَّفاً من بضع مئات من الميليشيات والشرطة العسكرية وقوات احتياطٍ من أهل المنطقة الذين لم يبنوا خط دفاع جيداً يستطيع الصمود إلى حين إرسال تعزيزات إضافية لصدّ أي هجوم محتمَل.

ويدل الهجوم على فشلٍ في التقييم العسكري والاستخباراتي الروسي ونجاح للقوى الاستخباراتية الغربية، خصوصاً السرعة التي سيطرت القوات الأوكرانية فيها على هذه المساحة الضخمة بقواتٍ جديدة مدرَّبة ومدرَّعة ومجهَّزة من «الناتو».

وانتقلت القوات الروسية المنسحبة إلى خلف نهر أوسكول، الذي يمثّل عائقاً طبيعياً وخط دفاع تستطيع قوةٌ صغيرة نسبياً الدفاع عنه.

وهذا يعكس أن الانسحاب الروسي تَحَقَّقَ فجأة ومن «دون فرصة» (أي انسحاب مفاجئ من دون معرفة مسبقة لتنظيم الانسحاب) بدليل ترْك معداتٍ حربية وذخائر في أرض المعركة، علماً أن سرعة الانسحاب قلّصت من الخسائر البشرية الروسية.

لا يستطيع الرئيس فلاديمير بوتين إعلانَ الحرب في أوكرانيا على أنها مجرد «عملية خاصة»، فهو يحارب الغرب مجتمعاً، وتالياً يجب الاعتراف بأنها حربٌ بكل ما للكلمة من معنى والتعاطي مع الأمر الواقع الذي ينبغي معه زجّ الجيش بأعداد تتفوّق على المدافعين وإنهاء المعركة بسرعة إذا كان ذلك هدفه.

إذ إن الجيش الروسي يقاتل بعددٍ يراوح بين 150 و200 ألف جندي في عمليةٍ متراميةٍ على مساحة 125 ألف كيلومتر مربع وجبهة طولها 800 كيلومتر، خصوصاً عندما يقابله جيش أوكراني بتعداد يراوح بين 230 - 300 ألف، والذي استطاع بعد ثلاث موجات من التعبئة، بلوغ نصف المليون جندي.

وتالياً فإن روسيا لا تملك قوات إضافية لحماية المناطق التي احتلتْها والدفاع عنها، ما يجعلها عرضة للتحرش الأوكراني الذي يبحث عن انتصارات تكتيكية لإقناع الغرب بالاستمرار في دعم كييف وإرضاء الأهداف الأميركية الرامية إلى استمرار الحرب إلى أَجَلَ طويل لاستنزاف موسكو.

ولا تستطيع قيادة الأركان الروسية الاستخفافَ بالقوات الأوكرانية التي تقاتل من خلال عقيدة الدفاع عن بلادها وتزداد قوةً لمعرفتها أن أميركا وحلف شمال الأطلسي خلْفها في التصميم على مقاتلة روسيا «حتى آخِر جندي أوكراني» - وفق التوصيف الروسي - من أجل التقرّب من الغرب والبقاء في كنَفه.

ولم تلتفت روسيا كثيراً للمعلومات التي انتشرتْ في الإعلام عن وجود 30 ألف جندي أوكراني في بولندا وألمانيا وبريطانيا، يتدرّبون على الأسلحة الغربية، بالإضافة إلى دعْمٍ استخباراتي ولوجستي من «الناتو».

وتالياً فإن القرارَ السياسي لا يستطيع عدم استدعاء قوات إضافية تمثّل على الأقل ثلاثة أضعاف القوات الأوكرانية المدافعة لتحقيق الأهداف المنشودة وإلا ستغرق روسيا في «المستنقع الأوكراني» كما غرقتْ في «المُستنقع الأفغاني» عام 1979.

من المفيد القول إن الانتصارَ الأوكراني في خاركيف، هو تكتيكي وليس إستراتيجيا، ولكنه يبقى انتصاراً.

فالجيوش تتراجع عند إدراك القائد العسكري أن لا جدوى من القتال وخسارة الأرواح وأن الأجدى الإبقاء على حياة جنوده لخوض معركة أخرى.

ففي 2016، حررت روسيا مدينة تدمر السورية من «داعش» الذي عاود احتلاله للمدينة بعدما أقام الروس حفلة موسيقية على مدارج المدينة القديمة.

وهذه ليست مقارنة بين التنظيم الإرهابي وأوكرانيا، بل مقاربة لتكتيك الانسحاب عند انعدام فرصة القتال لمعاودة استعادة الأرض بخسائر أقلّ.

إلا أن الأنظار تتجه الآن نحو الخطوة الأوكرانية التالية، ويصبح الانتصار التكتيكي مُهِمّاً عندما تليه انتصاراتٌ تكتيكية وتسانده «ماكينة بروباغندا غربية» قوية، تُظْهِر كييف - التي ذكرت أنها فقدت أكثر من 191000 جندي بين قتيل وجريح ومُقعد بعد ستة أشهر من القتال - وكأنها «طائر الفينيق» الأسطوري العائد من الرماد بعد احتراقه.

مما لا شك فيه أن روسيا ستنطلق إلى مرحلة أكثر دموية وعنفاً بعد إعلان الولايات المتحدة واستخباراتها، عن مساهمتها الفاعلة، في الهجوم الأوكراني المضاد.

وقد اقتنعتْ روسيا بأن العلاقة مع أوكرانيا لن تعود أبداً إلى الوراء وأن العداوة بين الشعبين قد ترسخت، خصوصاً أن كييف حسمت خيارَها الغربي وأدارت ظهرها لموسكو كلياً.

إلا أن الحديث عن هزيمة روسيا بعد معركة خاركيف، لا يمت إلى الحقيقة، لأن معركة موسكو مع واشنطن على أرض أوكرانيا، «وجودية»، والحرب مازالت في أولى مراحلها، وتالياً، ثمة هزائم انتصارات.

وقد ردت موسكو، على الخسائر الأخيرة، بضرب المحطات الأوكرانية الحرارية ومحوّلات الطاقة، ليخيّم الظلامُ على الملايين من السكان بضربةٍ واحدة ولساعاتٍ طويلة.

كذلك ضربت أهدافاً في خيرسون لوقف هجوم آخَر، حيث كبدت القوات الأوكرانية خسائر فادحة، بحسب إعلاميين يعملون مع السلطة في كييف.

الخطوات التدميرية التي تشنّها روسيا لن تثني «الناتو» - الذي أعلن دخوله المعركة من خلال دعمه العسكري والمادي والإعلامي اللا محدود، ومن ضمن ذلك إرسال وحدات نظامية خاصة أميركية وأوروبية - عن فتح جبهات جديدة لإشغال الروس على جبهات شتى.

الشتاء يطرق الأبواب... وتوقَّع حدوث تغيير في مسار المعركة

من الواضح أن الجيش الروسي تلقّى درساً - رغم قدرته على تقبُّل الخسائر البشرية مهما كبرت - ستتعلم منه القيادة العسكرية مستقبلاً.

ومن غير المعلوم، إذا كانت موسكو ستستدعي قوات إضافية وتعلن نوعاً من التعبئة لزج المزيد من القوات وتغيير سرعة المعركة بعد 200 يوم من القتال.

ويمكن أن يكون هدف موسكو، مثل الهدف واشنطن، تجفيف القوة الاقتصادية الأوروبية التي تدفع الثمنَ غالياً لدعم كييف وإطالة أمد المعركة.

طرق الشتاء أبواب أوكرانيا وروسيا، ومن المتوقَّع حدوث تغيير في مسار المعركة التي يبدو أنها مستمرة إلى ما بعد السنة الحالية على الأقل...