... بعد إعلان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أن التفاهم مع سورية ممكن، تعالت صيحات المعارضين السوريين في منطقة إدلب الواقعة تحت السيطرة التركية في الشمال الغربي السوري، بأنهم «لن يصالحوا ولن ينسوا».

إلا أن موقف الرئيس رجب طيب أردوغان، أتى قاطعاً، بقوله إنه ينبغي «اتخاذ خطوات متقدمة نحو دمشق لإفساد العديد من المخططات» وأن «أميركا وقوات التحالف هما الداعمان للإرهاب في سورية»... ما جعل السؤال مشروعاً، هل ما يجري الآن هو مقدمة لتغيير جذري في بلاد الشام؟

لا يمكن فهم مواقف كبار المسؤولين الأتراك من دون العودة أولاً إلى اللقاء الثلاثي في طهران، بين رؤساء إيران إبراهيم رئيسي وروسيا فلاديمير بوتين وتركيا أردوغان، والذي تبعه لقاء ثنائي بين بوتين وأردوغان، في سوتشي، بعد بضعة أسابيع... فهذا الحراك أسس لتغيير واضح في موقف أنقرة، ليس فقط حيال سورية، بل في ملفات كثيرة عدة، تتعلق بترتيب العالم وقيادته، التي لم ولن تبقى كما هي، تحت مظلة الولايات المتحدة.

ملفات عدة بين أنقرة وموسكو، تبدأ بوجود البلدين في ليبيا وأذربيجان وأوكرانيا وسورية، وبناء المفاعلات النووية الروسية في تركيا، وخط الغاز «تركستريم» الممتد من روسيا إلى تركيا، والذي يغذي دولاً من الاتحاد الأوروبي.

ولا يمكن النأي بالتغيير في السياسة الخارجية لأنقرة عن انتخابات السنة المقبلة، والعبء المالي والاقتصادي الذي تنوء تحته الحكومة، بسبب ضغط التضخم الذي بلغ 79.8 في المئة وتدهور العملة المحلية وتململ الشعب الذي يرى مدخراته تختفي رويداً على وقع الأزمة الداخلية.

إلا أن كلام أردوغان عن دعم أميركا والتحالف الدولي، للإرهاب - بحسب تعبيره - مهم جداً. فتركيا، من أهم الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، وتستقبل نحو 50 قنبلة نووية أميركية، موجهة نحو موسكو ومدن روسية أخرى، في قاعدة أنجرليك العسكرية، التي انطلق منها الانقلابيون ضد أردوغان عام 2016 وهللت لهم السفارة الأميركية حينها ببيان أزالته بعد فشل المحاولة.

إلا أن اتهام تركيا، لأميركا وحلفائها، سببه دعم واشنطن، لأكراد سورية الانفصاليين، الذين يريدون إنشاء دولة «روج آفا»، ويحلمون بالتمدد نحو كردستان العراق، لإعلان دولتهم عند توافر الفرص والأجواء السياسية لذلك.

وهذا ما لن تسمح به سورية والعراق وتركيا وإيران، وتالياً فإن وجود الولايات المتحدة في سورية يشكل خطراً على الأمن القومي لكل من أنقرة ودمشق وبغداد وطهران.

كذلك يعتبر وجود قوات أميركية في الشمال الشرقي، خطراً على الاقتصاد السوري بسبب السيطرة على النفط والغاز، ومنع وصول السلة الغذائية في تلك المنطقة إلى المحافظات السورية الأخرى.

وتشجع واشنطن الأكراد على عدم التقارب مع دمشق لإبقاء «عقوبات قيصر» فعالة، وعدم إجراء أي مصالحة تؤدي إلى استعادة دمشق سيطرتها على مناطق أكبر من تلك التي تقع تحت سيادتها (المناطق التي تقع تحت السيطرة الأميركية - الكردية تشكل 23 في المئة من الأراضي السورية).

واللافت أن أردوغان، قرر تغيير سياسته تجاه دول عدة ليصل إلى «صفر مشاكل»، فمد يد المصالحة إلى مصر والسعودية والإمارات، كما لإسرائيل التي أعاد العلاقات الديبلوماسية معها.

وأخيراً سورية التي خاطبها قائلاً إن «تركيا ليس لديها أطماع في الأراضي السورية وعلى النظام في دمشق أن يعلم ذلك».

ولم يكن أردوغان ليمد اليد إلى النظام السوري، لولا درايته أنه يمتطي الحصان الرابح، خصوصاً بعد زيارته الخميس، لأوكرانيا واجتماعه مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس والرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، في مدينة لفيف الغربية القريبة من الحدود البولندية.

وهذا يعني لأردوغان أن أميركا تريد «النزول عن الشجرة»، لأن حربها مع روسيا على الأراضي الأوكرانية «خاسرة»، خصوصاً بعد أن أظهرت وقائع سربتها كييف، أن نحو 50 ألف قتيل وما يقارب 140 ألف جريح، سقطوا في أرض المعركة، وأن روسيا تتقدم نحو أهدافها بثبات، وأن النتيجة أصبحت محسومة.

وقد لعبت تركيا دوراً إيجابياً بعد أن وافقت روسيا على إعطائها هذا الدور بإخراج 625000 طن من الحبوب الأوكرانية إلى العالم وأن تقبض أوكرانيا ثمنها، لأن الحرب قد أصبحت في خواتيمها.

وهذا يعني لتركيا أن أميركا ودول حلف «الناتو» مجتمعة (باستثناء تركيا التي لم تشترك مباشرة رغم استخدام كييف لمسيراتها القاتلة «بيرقدار» التي باعتها قبل الحرب) خسرت المعركة التي تؤشر إلى سقوط الأحادية خصوصاً بعد دخول الصين إلى المواجهة من خلف الستار واستفزاز أميركا في تايوان.

إذاً، لقد أظهر الرئيس التركي براعة في اغتنام الفرص واللعب على الورقة الروسية - الإيرانية الرابحة. لكن هذا لا يعني أن الغزل التركي لسورية يعني الانسحاب من الشمال الغربي في مناطق وأرياف إدلب والرقة ودير الزور.

لقد حصلت لقاءات بين قادة الاستخبارات التركية والسورية وبين موظفين كبار يعملون بحسب رؤية رؤسائهم، في بلغراد، البعيدة عن كونها «لقاءات صدفة». إلا ان دمشق لن تقبل عودة العلاقة من دون شروط كفتح المناطق التي تسيطر عليها تركيا وعودة السيادة عليها.

وهذا ما لم ينضج بعد رغم «حضور» ورقة ضرورة إخراج أميركا من سورية وإفشال الورقة الكردية التي تشكل خطراً على دمشق وأنقرة وغيرهما من العواصم... إنها خطوة على طريق الألف ميل.