بعد قمة جدة، التي أكدت ضرورة تفاهم دول المنطقة وإيجاد حل للقضية الفلسطينية، أتت القمة الإيرانية - التركية - الروسية، التي عقدت في طهران، لتؤكد الشيء نفسه، رغم نقاط الاختلاف بين إيران وتركيا حول سورية، وإصرار أنقرة على موقفها من المطالب القديمة - الجديدة.

إلا أن القمة الثلاثية أرست محوراً إستراتيجياً جديداً، يعلي التصميم على تحدي الغرب والمضي في الابتعاد عن أميركا وحلفائها الأوروبيين، وتعزيز قواه لحل الخلافات وإيجاد قواسم مشتركة بين دوله المتمسكة بالتفاهم والتعاون.

ومن الطبيعي القول إن قمة طهران، أسفرت عن نجاح كبير للأطراف كافة... كما أظهرت كسر عزلة خصوم وأعداء أميركا عن العالم.

من الواضح ان الوضع في سورية، كان أحد المحاور الرئيسية للقمة الثلاثية بين الرؤساء إبراهيم رئيسي وفلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان. ومن المهم القول إن روسيا وإيران، هما الدولتان اللتان تتعرضان لأقسى العقوبات الغربية. وقد توحدتا حول أهداف إستراتيجية عدة تمثلت في هذه القمة بالعمل على توسيع أفق التعاون في مجال الطاقة والتصنيع العسكري والتجارة واستخدام العملات المحلية للتبادل والنمو الاقتصادي.

ولم تتوقف هذه القمة عن التحدث عن سورية في شكل مباشر فقط، بل أيضاً في شكل غير مباشر. فروسيا وإيران هما دولتان مصدرتان للنفط والغاز. وهذه الطاقة تحتاجها تركيا التي تستطيع تقديم نفسها كمصدر أساسي مهم لإعادة توزيعها إلى القارة الأوروبية الملاصقة لتركيا إذا ما عجزت القارة العجوز عن الحصول على الكمية التي تبحث عنها في محاولة لتخفيف الاعتماد على الغاز الروسي.

وهذا من شأنه أن يعطي أنقرة موقعاً إستراتيجياً مهماً تستطيع استخدامه لدفع مطالبها القديمة بقوة أكبر أمام الاتحاد الأوروبي، الذي لم يفعل شيئاً منذ عام 1999 عندما تقدمت أنقرة بطلب الانضمام إلى الاتحاد.

أما النقطة الثانية المهمة، فهي التعاون ومذكرة التفاهم بنحو 40 مليار دولار بين الشركة الوطنية الإيرانية للنفط والشركة الروسية «غازبروم».

هذه الخطوة الإستراتيجية تدل على نيات هذه الدول المنتجة للنفط بالاستغناء عن الشركات الأميركية والأوروبية، التي لطالما احتكرت الأسواق العالمية لإمكاناتها في صناعة أدوات الطاقة واستخدامها، لتأتي روسيا لتحل مكان شركات عالمية موجودة في غرب آسيا وحول العالم وتحتكر صناعة استخراج الطاقة.

وقد انسحب جميع من كان له عقود مع إيران عام 2018 عندما مزق الرئيس دونالد ترامب الاتفاق النووي وفرض عقوبات قاسية على طهران. وهذا يدل على التحول الجذري الإيراني نحو الشرق كما وعد رئيسي عندما تسلّم السلطة وتصميم «الجمهورية الإسلامية» على زيادة استخراجها للنفط الذي سيجد أسواقاً مُتعطشة، كما أظهرت التطورات الدولية الأخيرة وما ستنتج عنه مستقبلاً.

ومن المهم القول إن وجود دولة (تركيا) تعتبر الثانية بعديد القوات العسكرية، بعد أميركا، في حلف شمال الأطلسي على طاولة واحدة مع بوتين ورئيسي، يعد خطوة مهمة جداً تقوم بها روسيا وإيران في هذا الوقت بالذات حيث تحاول أميركا فرض عزلة تامة على موسكو، وتهدد طهران بعقوبات جديدة إذا لم تعد إلى الاتفاق النووي بكامل تفاصيله وتلتزم ببنوده.

وقد اجتمع بوتين ورئيسي على موقف موحد من تطوير العلاقة مع أردوغان ومحاولة إقناعه بتهدئة الوضع في بلاد الشام، حيث يعمل الثلاثة على أرض واحدة ولديهم نفوذهم القوي وتضامنهم مع حكومة دمشق وسعيهم إلى تهدئة الأمور في الشرق الأوسط، كما طالب قادة قمة جدة، العرب.

وكان الرئيس التركي عبر في الأشهر الأخيرة عن نياته الدائمة بدفع القوات العسكرية إلى 30 كيلومتراً في الشمال الشرقي السوري، كمنطقة عازلة (لم توافق عليها إيران وروسيا وحتى أميركا) بهدف مكافحة الإرهاب.

وقد ردت إيران وروسيا بأنهما تدعمان مكافحة الإرهاب، وان أمن سورية وتركيا من أمنهما وأنه ينبغي التعاون على الأهداف نفسها، وتالياً فإن التنسيق مع تركيا ضروري رغم معرفة إيران ان أردوغان يمكن ألا يدفع بقواته لقضم المزيد من الأراضي السورية، لكن من المؤكد أنه لن يخرج من سورية بالكامل، وبالتحديد من مناطق إدلب ومحيطها التي أصبحت تستخدم العملة واللغة التركيتين، وكذلك تغيرت فيها المناهج الدراسية وعدلت لتتطابق مع التركية.

إذاً، ما دام أردوغان في السلطة، فان القوات التركية باقية تحتل جزءاً من سورية، وهذا ما لا تستطيع كل من إيران وروسيا تغييره في الوقت الراهن تماشياً مع مصالح إستراتيجية كثيرة ومتعددة بين هذه الدول، ولضرورة تهدئة المنطقة للتصدي لمواجهة الأحادية الأميركية وسيطرتها على العالم، وتالياً فان إغضاب أردوغان في هذه المرحلة غير وارد.

إلا أن طهران وموسكو تحاولان تقريب وجهات النظر مع أنقرة والتعاون لدفع اتفاق أستانة والدستور السوري الجديد إلى الأمام في محاولة لحلحلة الأمور وتفادي التصادم على الأقل.

لكن مهما اتفق الفرقاء في طهران، فان العنصر الأميركي المسيطر على الشمال الشرقي السوري، سيبقى، ووضع اليد على النفط من قوات واشنطن سيستمر - كما كان أعلن ترامب منذ أعوام عن ذلك بنفسه - ولن تخرج أميركا من المنطقة في الوقت الراهن، وتالياً فإن دمشق وطهران وموسكو تحاول تهدئة الوضع للحفاظ على الأراضي السورية وعدم خسارة المزيد على يد حليف تركي أصبح جزءاً من المعادلة الإيرانية - الروسية في مواجهة الغرب.

كان من الواضح وجود خلافات في القمة حول تعرفة الإرهاب ومن هي التنظيمات الإرهابية في سورية التي تريد الأطراف الثلاثة إنهاء وجودها.

فأردوغان يعتبر حلفاء أميركا الأكراد، إرهابيين، على عكس بوتين ورئيسي اللذين يعتبران التنظيمات في إدلب (تحت السيطرة التركية) جهات إرهابية. وخلافات أخرى، برزت حول ملف اللاجئين وعودتهم إلى سورية، بينما يريد أردوغان إعادتهم إلى مناطق إدلب التي تقع تحت سيطرة قواته والميليشيات التابعة لها.

إذاً هي قمة ستنعكس إيجاباً على سورية، حيث الجديد سيتمحور حول الحؤول دون قيام تركيا بعملية عسكرية جديدة، وإبقاء الوضع كما هو عليه في الوقت الراهن إلى حين وقت التسويات النهائية والاتفاق على إبقاء التعاون مستمراً.

وتقف تركيا على قدم في الغرب وأخرى في الشرق من دون أن تصبح ضمن محور ضد آخر.

بل يعمل أردوغان على إبقاء كل خياراته مفتوحة ما دامت تخدمه في الانتخابات في السنة المقبلة، وتالياً فهو لم يتردد في الإعلان عن خطوات مستقبلية للتعاون في مجال الطاقة والصناعات العسكرية مع إيران، التي تعيش عقوبات غربية شديدة، لتطوير اقتصاد أنقرة وإعطاء بعض الدفع لإخراجها من أزمتها الاقتصادية.

وتلعب تركيا دور الوسيط في قضية تصدير الحبوب الأوكرانية بين روسيا وأوكرانيا.

إلا أن نجاح هذه الخطوة يتعلق برغبة واشنطن في سحب اتهاماتها والحد من البروباغندا الإعلامية ضد روسيا لتحميلها المسؤولية عن أزمة الغذاء العالمي، باعتبار ان روسيا هي المصدر الأول للحبوب في العالم (24 في المئة) بينما أوكرانيا تعد الخامسة فقط (8 في المئة) بعد كندا وأميركا وفرنسا.

ومن الطبيعي أن تقلق إسرائيل من التقارب الروسي ـ الإيراني ومن هذه القمة ونتائجها، خصوصاً بعد أن بدأت موسكو اتخاذ مواقف أقل مرونة حيال الضربات الإسرائيلية في سورية، وتتهم تل أبيب بتقويض السيادة السورية وتستدعي السفير الإسرائيلي على خلفية ضرباتها اللا قانونية على دولة ذات سيادة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن انعقاد قمة في إيران لدعم سورية والدفاع عن وحدتها وسيادتها أكبر دليل على عمق العلاقة بين طهران ودمشق والتي فشلت أكثر من 1500 غارة إسرائيلية في تقويضها.

ومن غير المستغرب أن تكون أميركا قلقة، بعدما صدرت معلومات ـ انفردت بها «الراي» منذ أسابيع ـ بان روسيا تبحث عن شراء مسيرات حديثة، غداة رفض الصين تزويدها بها، لكي لا تصبح على لائحة العقوبات الغربية، ولذلك اتجهت موسكو نحو دولة صديقة أخرى مصنعة ومنتجة لكل أنواع المسيرات.

خرج الحلف المتحدي لأميركا إلى العلن، وهو يعمل ليشتد ساعده رويداً ويضم دولاً تتحدى الأحادية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة.

ومن الطبيعي أن يشهد العالم في الأشهر المقبلة انضمام إيران إلى حلف «البريكس»، الذي يضم البرازيل وروسيا والصين والهند وأفريقيا الجنوبية، الدول التي تتمتع بقوة اقتصادية هائلة.

إنها بداية تعدد الأقطاب حيث من المتوقع أن تكون المعركة أكثر عنفاً، كلما اعتقدت أميركا أن هناك جبهات قوية تتحداها وتواجهها مع حلفاء أقوياء وتسحب بساط السلطة من تحت قدميها.

إنها الحرب الطويلة لكسر احتكار الزعامة الأميركية للعالم، لكنها حرب من نوع آخر من دون أن تكون أقل شراسة من الحرب العسكرية.