لن يُغادر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قصر الإليزيه، وجدّد إقامته فيه لخمس سنوات إضافية بعد فوزه على منافسته ممثلة اليمين المتطرف مارين لوبان بفارق 16 في المئة من أصوات الناخبين.

وفي أول كلمة له أمام ناخبيه في «احتفال النصر»، أكد ماكرون أنه يعي أن استمراره في منصبه يعود إلى أولئك الذين يرفضون وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، وتالياً فهو يعلم انه لن يتمتع بالقوة الانتخابية التي أوصلته إلى منصبه عام 2017 وأن قسماً لا يُستهان به من الشعب أراد تجنّب «حرباً أهلية»، كان حذّر منها في حال وصلت لوبان إلى السلطة وفرضت برنامجها المتشدّد على المسلمين والمهاجرين في الدرجة الأولى.

وهذا ما أعطى الشرطة وقوات الأمن مهلة لتنفس الصعداء بعدما كان عدد كبير من الفرنسيين يتحضرون للتظاهر ضد لوبان، لو فازت.

قالت لوبان إنها ستمنع ارتداء الحجاب والمظاهر الدينية في الأمكنة العامة، وهذا ما يتعارض مع حرية ممارسة الشعائر الدينية، وهو موقف موجه ضد المسلمين قبل سواهم، لأن زعيمة اليمين المتطرف تطرّقت إلى الحجاب على وجه خاص، مما كان سيضع الملايين من المسلمين في مواجهة ضد القوات الأمنية في حال التعرّض للنساء المسلمات في الشوارع.

ومن ضمن هؤلاء حملة الجنسية الفرنسية وآخرون لا يتفقون مع هذه الأفكار المتطرفة، الأمر الذي من شأنه أن يُشعل حرباً داخلية تستنزف البلاد وأمنها واقتصادها المرهق الذي يُعاني من تداعيات عامين من «كوفيد - 19» ومن النتائج المبكرة لحرب أوكرانيا التي تثقل كاهل أوروبا.

لقد صوّت لماكرون، جميع مَنْ أرادوا محاربة لوبان سياسياً وتخوفوا من وصولها إلى الرئاسة، وما تحمله من برنامج لم يكن ليضرب الداخل والأمن الفرنسي فحسب، بل الوحدة مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي أرادت لوبان الانسلاخ عنه.

عندما سار ماكرون إلى المنصة حيث يلقي خطاب النصر، كان برفقته شباب من جنسيات وأعراق مختلفة ليطلق رسائل طمأنينة بأنه لن يسمح بالصدام الأهلي في عهده.

إلا أنه يعلم في الوقت عينه، أن حزبه ومناصريه قد أعطوه فقط 27 في المئة من الناخبين الذين صوتوا له في الدورة الأولى، وتالياً فإنه سيتحضر للانتخابات التشريعية في 12 يونيو المقبل والتي سينتخب فيها الفرنسيون 577 نائباً سيحددون شكل الحكومة المقبلة ومع مَنْ سيتعايش الرئيس الفرنسي.

من جانبها، قالت لوبان انها تتقبل هذه الخسارة - التي تعد ربحاً لأن اليمين المتطرف لم يحصل أبداً على دعم 13 مليون ناخب منذ تأسيسه - لكنها ستوجه جهدها نحو الإنتخابات التشريعية.

أما حزب اليسار المتجدد، الذي يقوده جون لوك ميلونشون - والذي وصل إلى المستوى الثالث بـ 12 في المئة من الأصوات في الجولة الأولى - فقد طلب من ناخبيه ألا يصوتوا للوبان أبداً في الدورة الثانية، في إشارة إلى دعم ماكرون، وتالياً فإن الثلاثي ماكرون - لوبان - ميلونشون، هو الذي سيحصد أكبر عدد من أصوات المجلس التشريعي، مما سيدفع ماكرون للتعايش مع الواقع الجديد وإعطاء كرسي رئاسة الوزراء لليسار المتجدد إذا ما استطاع التوصل معه إلى لاتفاق الضرورة.

لم تخرج فرنسا من عين العاصفة إلّا موقتاً. فقد كانت القارة الأوروبية وعملتها على وشك التلاشي في حال فازت مرشحة اليمين المتطرف ووصلت إلى سدة الرئاسة. وهذا يعني ان القارة الأوروبية ليست بالقوة التي تظهر بها وأنها معرضة للاهتزاز والانهيار كمجموعة أوروبية في حال خروج أحد أركانها الأساسيين (فرنسا وألمانيا) خصوصاً بعد خروج بريطانيا منها.

مازال الوضع الداخلي الفرنسي (سن التقاعد، فرص العمل، مستوى الفقر الذي وصل إلى أعلى مستواه، الضرائب والقيمة الشرائية) معرض للاهتزاز. وهذا يعني ان ماكرون سيكون أمام تحديات جمة وأكبر بكثر مما عرفها سابقاً لأن الوضع الاقتصادي أسوأ مما كان عليه، وهو ما سيدفع الفرنسيين للتظاهر في الخريف المقبل، إذا لم يجد الرئيس بعض الحلول الآنية الصعبة.

لقد تجنبت فرنسا الكارثة الكبيرة المزلزلة بإعادة انتخاب ماكرون لولاية ثانية، إلا أن هذا لا يعني أيضاً أن اليمين المتطرف أصبح قوة لا يُستهان بها بعدما حصل على 42 في المئة من مجموع الناخبين الفرنسيين، مما يؤشر إلى أن جزءاً من الفرنسيين أصبح يخشى على أمنه ولا يريد التعايش مع الآخرين ويذهب نحو التطرف وليس إلى العيش المشترك والتعايش مع الآخرين... هذه حقيقة أظهرتها صناديق الاقتراع ولا بد من الاعتراف بها.