ما زالت العقوبات الغربية القاسية تتوالى على روسيا ومؤسساتها الاقتصادية والمالية، منذ اليوم الأول من بدء الحرب على أوكرانيا في 24 فبراير الماضي.

وتستمر دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) بإرسال الأسلحة الفتاكة والمناسبة لأوكرانيا لمحاربة الجيش الروسي بهدف إيقاع أكبر عدد من الخسائر في صفوفه وإطالة أمد الحرب على نحو يسمح بـ «شيطنة» موسكو أكثر والعمل على عزلها عن الغرب في شكل كبير وليس كلياً لحاجة أوروبا للطاقة الروسية، التي أكدت منظمة «أوبك» ان لا بديل عنها في السنوات المقبلة.

إلا ان تغيير الخطة العسكرية لروسيا أعطى جيشها أهدافاً أكثر تواضعاً وسط احتمال بألا تستمر الهجمات طويلاً.

من البدهي القول، إن الحرب ليست فقط عسكرية بل إعلامية و«بروباغندا» برع فيها الغرب واتقن استخدامها ضد روسيا، ما حرّض العالم الغربي بغالبيته ضد موسكو التي أصبحت «الشيطان الأكبر» بالنسبة إلى السواد الأعظم من الأوروبيين، وتالياً أصبح ما تقوله روسيا أو الصين أقل أهمية خصوصاً لجهة اتهام «الولايات المتحدة بالدفاع عن أحاديتها، وبأن توسع الناتو دفع روسيا إلى فوهة البركان ونحو الحائط، وان الصين لن تتخذ موقفاً مع أو ضد أحد»، كما قال الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية.

لم يكن مفاجئاً إعلان الرئيس فلاديمير بوتين ان معركته هي «من أجل كسر الأحادية الأميركية المستعدة لقتال روسيا حتى آخر جندي أوكراني».

وتأكيده انه «مصمم على تحقيق أهدافه وإنهاء الحرب مهما كانت كلفتها وفي شكل هادئ ومرن».

ولم يتردد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بالقول «ان الهجوم الروسي هو هجوم على النظام الدولي»، ويعني، الأميركي.

من الواضح أن بوتين أظهر مرونة عسكرية بعد تواضع الأهداف الموضوعة في الأسابيع الأولى من الحرب خصوصاً بعد «وقوع خسائر مهمة في صفوف الجيش الروسي»، كما صرح الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف.

ونجح الغرب بقيادة الولايات المتحدة في تسجيل انتصار على روسيا في الحرب عبر إفشال المخطط الأساسي الذي ظن قادة الكرملين بان دخولهم سيكون كقوة سلام ونزهة.

وأظهرت أوكرانيا إرادة في القتال والدفاع عن المدن بشراسة، معتمدة على الخبرات والأسلحة المناسبة التي قدمتها أميركا ودول حلف الناتو لإيقاع أكبر الخسائر الممكنة في صفوف الجيش الروسي.

لهذه الأسباب، قرر بوتين تعديل خطته العسكرية من خلال سحب الجيش ورأس الحربة من الشمال، وفك الحصار عن مدن عدة وعدم الدخول إلى العاصمة كييف ليعود بجزء من الجيش إلى قاعدة الانطلاق من بيلاروسيا واستبداله بقوات جديدة بدل تلك التي أنهكت، للتوجه نحو دونباس والجنوب لتحقيق الأهداف المقدور عليها، بأقل خسائر واستعداد أكبر، وهي السيطرة الكاملة على دونباس والوصول إلى حدود نهر دنيبرو من الشرق وتجاوزه في الجنوب لتقف القوات أمام عارض طبيعي (النهر) يسهل الدفاع عنه.

يجري ذلك مع إعلان بوتين ان «أوكرانيا تراجعت عن التوافقات التي تم التوصل إليها خلال المباحثات الديبلوماسية في إسطنبول».

وفي ظل قول الرئيس الأوكراني فولديمير زيلينسكي ان «الحرب ستطول وأنه لن يتخلى عن أي شبر من بلاده».

ويؤشر هذا المناخ إلى ان سيطرة روسيا على دونباس محسومة، إلا أن ذلك لا يعني ان أوكرانيا ستسلم بالأمر وأن أميركا لن تدفع بالمزيد من السلاح والتدريب ليستعيد الجيش الأوكراني بعض عافيته وقوته ويعود لمهاجمة الجيش الروسي أو الانفصاليين هناك بدعم من دول «الناتو».

ورغم «واقعية» هذا الاحتمال، فإنه يبدو أن موسكو تدرك ذلك وهي لن تترك القدرات العسكرية الأوكرانية من دون تدميرها قبل مغادرتها الأراضي الأوكرانية.

لم تحتفظ القوات الروسية بالأرض من الجهة الشمالية، لأنها لم تشرك قوات مشاة مع الوية المدرعات التي دفعتها إلى أرض المعركة.

إلا أن من الظاهر ان القيادة الروسية بدأت تستخدم سياسة «الأرض المحروقة» وان القفازات قد أزيلت وبدأ القصف المستمر على الأهداف العسكرية والبنية التحتية، وهو الأسلوب العسكري الكلاسيكي والمعروف في الحروب السابقة.

لا يتناسب عدد القوات الروسية المهاجمة (150.000 – 200.000) مع أهداف (أعلنتها أميركا بالنيابة عن روسيا) احتلال كل أوكرانيا، إلا إذا كان بوتين يعتمد على انقلاب داخلي في كييف يطيح زيلينسكي.

ولربما كان هذا هو الأمل أو ان الخطة فشلت في مهدها. ولم تلتفت القيادة الروسية إلى صعوبة طرق الإمداد التي تمتد إلى آلاف الكيلومترات وقد تعرضت لضرب شديد.

إلا أن تعديل الخطة العسكرية لتصبح أكثر قابلية للتنفيذ دليل على تقبل الخسائر، وهو أمر ليس بجديد على الجيوش الكبرى: فقد دخلت أميركا إلى أفغانستان وكانت «طالبان» تسيطر على عشرات المحافظات رغم وجود أكثر من 250000 جندي من «الناتو» قبل أن يخرجوا بعد 20 عاماً لتستعيد «طالبان» السلطة.

وخرجت أميركا من العراق مع حلفائها بسبب ضربات المقاومة وتنظيم «القاعدة». ولم يستطع «الناتو» - رغم غرف العمليات في الأردن وتركيا وإرسال الأطنان من الأسلحة - إسقاط النظام السوري.

وانكسر الجيش السوفياتي في أفغانستان عام 1979 لينسحب بعد 10 أعوام.

أما اليوم فان مرونة القيادة العسكرية الروسية عدلت أهدافها عبر السعي إلى السيطرة على دونباس وتمكين الانفصاليين عسكرياً من الدفاع عن المحافظة وإنشاء منطقة غنية بالصناعة والزراعة وحرمان أوكرانيا من بحر آزوف.

إلا أن هذا الواقع ليس نهاية المعركة. فقد قررت فنلندا والسويد الالتحاق بـ «الناتو»، وهو ما تعتبره موسكو «خطاً أحمر»، وينم عن تصعيد أميركي في وجهها رغم التضخم الاقتصادي الذي بدأ يرهق العالم كله.

وتالياً فإن معركة توسع «الناتو» التي بدأت من البوابة الأوكرانية لن تنتهي على حدود كييف لتصبح أوروبا، بدل الشرق الأوسط، ساحة للنزاعات الحربية المستقبلية.