أصبح العراق أخيراً، ساحة لمعارك سياسية وكلامية، اندلعت معها «اشتباكات» غنية بالألفاظ المسيئة والشتائم، لم توافر القادة السياسيين داخل المجتمع الشيعي خصوصاً. وبلغت الأمور حد وصف زعيم «التيار الصدري» السيد مقتدى الصدر، بأبشع الصفات واتهامه بـ «حماية المجرمين»، ليرد بخرق «المحرمات» واتهام «محور المقاومة» بـ «الإرهاب»، وهي صفة لم يستخدمها إلا أعداء إيران والمحور، ولم تدخل أبداً البيت الشيعي خصوصاً من زعيم كان له تاريخ حافل بمحاربة الأميركيين في العراق.
وفي هذا الإطار، يأتي إعلان قائد العمليات الوسطى الأميركي الجنرال كينث فرانك ماكنزي، خلال ندوة، أن «حلفاء إيران يرسلون المسيرات بسبب خسارتها في الانتخابات النيابية العراقية»، وهو ما ترفضه مصادر قيادية في «محور المقاومة»، وترى أنه «يمهد لخطوات تصعيدية أو اغتيالات من المرجح أن تتخذها أميركا في العراق لتتهم بها إيران وحلفاءها لاحقاً بهدف افتعال حرب أهلية وخصوصاً بين الأطراف الشيعية المتناحرة».
ولا يخفى على أحد أن لإيران حلفاء أقوياء في العراق بمعزل عن العملية السياسية ونتائجها.
وتالياً فإنها لن تفقد نفوذها أو تتخلى عنه في العراق ما دامت تشعر بخطر حقيقي على أمنها القومي بسبب الوجود الأميركي، وبسبب حرية الحركة للاستخبارات الإسرائيلية في الشمال، أي في كردستان، الذي لا يقع تحت سيطرة الحكومة المركزية في بغداد وتتواجد فيه مئات الآلاف من قوات نظامية كردية تتبع حكومة كردستان.
أما بالنسبة إلى تركيا، فهي تحتل جزءاً من بعشيقة ولديها العشرات من القواعد العسكرية وتستبيح العراق حين تشاء وتشن الهجمات من دون رادع مثلما فعلت بقصفها سنجار ومخمور في الأيام الماضية، في الوقت الذي لم تستطع حكومة بغداد لجمها.
أما أميركا، فلديها كل الأسباب للبقاء في العراق وإبقاء قوات لها تحت حجة مكافحة الإرهاب وهزيمة «داعش».
فالولايات المتحدة وفي عهد الرئيس جو بايدن، لن تتخلى عن قواعدها ولن تترك الاستثمارات الهائلة والمقدرات العراقية التي تستطيع شركاتها الإفادة منها.
وهي تملك مركز نفوذ لها في العراق لن تتخلى عنه بسهولة، خصوصاً أن الحدود المشتركة مع إيران طويلة وتخدم مصلحتها ومصلحة إسرائيل.
إضافة إلى أن أي استقرار مستدام في بلاد الرافدين، سيدفع بالسياسيين إلى الطلب من أميركا مغادرة القواعد التي ما زالت تملكها في صحراء الأنبار (قاعدة عين الأسد) وكردستان (قاعدة حرير ومطار أربيل) وفي بغداد (قاعدة فكتوريا في مطار بغداد).
أما المسألة الأهم والأخطر، فهي الخلاف الشيعي - الشيعي، الذي وصل إلى نقطة حرجة جداً، وسط سؤال جوهري: هل يمثل هذا الخلاف حالة نادرة تتقاذف فيها الاتهامات يمنى ويسرى ما من شأنه أن يفسح المجال لأعداء العراق، وخصوصاً أميركا، للتدخل لإشعال هذا الخلاف؟
أعرب جمهور «التيار الصدري» عن بغضه الشديد لإيران.
وهذا الأمر يعود إلى قائده في الدرجة الأولى، لأن التيار يتموضع تبعاً لإرادة زعيمه السيد الصدر، الذي يقول أتباعه اليوم إن العلاقة السيئة بينه وبين إيران تعود إلى زمن والده الشهيد محمد صادق الصدر، الذي اتهم يوماً بأنه «عميل لصدام حسين» وأغلقت مكاتبه الدينية في إيران، وهو الذي أطلق شعار «نعم نعم للإسلام» بدل شعار «نعم نعم للقائد صدام حسين».
إلا أن الحقيقة، وبحسب ما كتب الباحث الصدري العراقي مختار الأسدي في كتابه «الصدر الثاني، الشاهد والشهيد»، هي أن والد السيد مقتدى كان يرمز للإمام الخميني «بأبي أحمد ويدعمه ويؤيد السيد علي الخامنئي ويؤكد حبه له كوالي أمر المسلمين ويدعو له ويتمنى أن تكون هناك دولة إسلامية في العراق مثل دولته (ص 38)».
ويذكر الكاتب بأن والد السيد مقتدى، الصدر الثاني (لقب السيد محمد صادق الصدر لان السيد محمد باقر الصدر الذي اغتاله صدام يلقب بالشهيد الأول) كان استخدم، في خطبته قبل الأخيرة، في أيام شهر رمضان، وفي خضم القصف الأميركي على العراق، وصف «الشيطان الأكبر، الذي يتسم بالظلم والطغيان والعدوان» ليصف أميركا، متناغماً مع الموقف الذي اتخذه الإمام الخميني وسار عليه قادة إيران لغاية اليوم.
وكذلك فعل مقتدى الذي استلم السلاح من إيران بعد معركة النجف الأولى واستعان بتدريباتها العسكرية وأنشأ وحدات خاصة و«عصائب أهل الحق» وقام بعمليات بمشاركة «حزب الله» اللبناني ضد أميركا في كربلاء ومناطق أخرى من العراق أدت إلى قتل العديد من الأميركيين.
إلا أن إيران عملت على التقاط أعداد كبيرة من «التيار الصدري» بقيت على محبة السيد الصدر الشهيد الثاني وانضمت إلى تنظيمات مختلفة ودعمتها بالمال والسلاح.
وهذه التنظيمات انشقت عن التيار الصدري، الذي كان زعيمه توجه إلى إيران للاحتماء أيام حكم إياد علاوي ونوري المالكي. وقد كان مقتدى كثير التنقل بين العراق وإيران حيث درس في حوزتها العلمية في قم من دون أن يتسنى له إنهاء دراسته الدينية.
ولم يتردد الصدر بلقاء القادة الإيرانيين من أعلى الهرم إلى ضباط الحرس الثوري وعلى رأس هؤلاء اللواء قاسم سليماني وخصوصاً عند تشكيل الحكومات التي كان جزءاً منها.
ويوم اغتيال سليماني في أوائل 2020 خارج مطار بغداد، دعا إلى تظاهرة تخطت المليون عراقي وانضمت إليه جميع الأحزاب كوقفة غضب ضد أميركا، التي لم يهادنها الصدر منذ عام 2003 إلى العام 2014.
إلا أنه في الأعوام الأخيرة تغير خطاب الصدر، الذي بدأ الكلام عن «السلاح المتفلت» الشيعي الميليشيائي، وعن الحاجة إلى السيطرة على «الحشد الشعبي»، الذي اعتبره جزءاً من أذرع إيران في العراق.
وبعد نجاحه في الحصول على أكثر المقاعد النيابية لحزب واحد (73 مقعداً) رفع من مستوى التشنج مع إيران في إشارته لها بتعبير الدولة «الشرقية»، قائلاً «لا شرقية ولا غربية».
ومن الضروري الإشارة، إلى أن شعبية الصدر لا تتخطى شعبية «الإطار التنسيقي».
فقد حصل التيار الصدري على 800.000 صوت انتخابي، بينما حصل «الإطار» على مليون و200 ألف.
إلا أن تشتت الأصوات وكثرة المرشحين لدى «الإطار» مقابل حسن إدارة العملية الانتخابية وتوزيع المرشحين لدى «التيار الصدري» أدى إلى حصوله على 73 مقعداً.
وثمة من يشير إلى أن الصدر تحالف مع الزعيم الكردي مسعود بارزاني، ذي النزعة الانفصالية وحليف أميركا.
وقال للبارزاني إنه حليفه ولكن عليه تغيير هوشيار زيباري ليصوت لمن يرشحه لرئاسة الجمهورية ويعطيه حصته.
واللافت أن الزعيم الصدري قبل بإعطاء السنة الحصة التي يريدونها في العملية السياسية حالياً، وانتخب محمد الحلبوسي رئيساً للمجلس. وتالياً فإن هذه التحالفات وغيرها، كما هو الحال مع السنة، حلفائه، تدل على أن هدف الصدر «زعامة الشيعة وإضعاف إيران» التي تدعم خصومه، وفق مصادر مطلعة.
فالصدر ساهم في تسعير العداء لإيران من دون أن يعلن جهاراً إنها عدوة له، ومسؤوليته كبيرة لانه لم يصحح البوصلة لمناصريه وتياره.
ويبدو أنه يدع الأمور كما هي، لان ذلك يتناسب مع الصورة التي يريد تقديمها كلاعب أساسي وقائد وطني.
ويكيل أنصار الصدر، الاتهامات لمناصري إيران، بنعتهم بـ«الولائيين»، لموالاتهم ولاية الفقيه، بينما يطلق الشيعة الآخرون على أنصار الصدر اسم «المقتدائيين» لافتقادهم لمرجع مجتهد يُقلدونه.
وذهب زعيم «التيار الصدري» إلى أبعد من ذلك، باستفزاز إيران وحلفائها عندما خطا الخطوة غير المتوقعة وغير محسوبة النتائج باتهامه «محور المقاومة» بأنه «إرهابي».
فبمجرد اتهامه جزءا من «المحور» («ألوية الوعد الحق»)، فانه يتهم الجسم كله.
وهذا يعني عند المراقبين أن الصدر هو الشخص الذي يعول عليه الشرق والغرب لضرب إيران واجتثاثها من العراق.
بينما كانت حقيقة مواقفه رد فعل على قائد «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي، أحد مساعديه السابقين الذين انشقوا عن «التيار الصدري»، والذي رغب بحشر مقتدى بالطلب منه رفع الغطاء عن أحد المتهمين بقتل أحد أفراد القوات الأمنية في محافظة ميسان.
لقد استقبل الصدر، قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني في الحنانة - النجف، في محاولة لإزالة التوتر بين المكونات الشيعية السياسية وإيجاد صيغة حل توافقية.
فإذا لم ينجح بترجمة مقتضيات هذا اللقاء وتغيير مزاج الشارع الصدري لإنهاء الاحتقان والقول إن إيران ليست العدوة، فان هذا اللقاء يعتبر تكتيكياً انتخابياً.
من هنا، فإن الخلاف هو على «السلطة الشيعية» والتنافس على مقاعد والمناصب في الدولة... إنها الحرب على السلطة والسيطرة، والتي يمكن أن تطيح بالجميع في نهاية الأمر إذا لم يتم وضع حد للاحتقان والضغائن.