تعيش الولايات المتحدة حقيقة مرّة تقلقها لوجود تهديدات إستراتيجية تحيط بها، وبالأخص من روسيا والصين وإيران وحلفائها، وقد وضعت مصالح حلفائها جانباً.
فأميركا قررت المضي بالاتفاق النووي من دون الأخذ بالاعتبار مصالح إسرائيل ومخاوفها من رؤية إيران تستعيد عافية اقتصادها أقوى من أي وقت مضى، إذا ما إنجز الاتفاق ورفعت العقوبات عنها.
وهذا ما سيفتح باب الإغداق على حلفائها التي تزودهم بالمال والصواريخ الدقيقة والطائرات المسيرة المسلحة من دون حدود.
وما زاد الطين بلة، الدوريات الروسية - السورية المشتركة التي سجلت طلعات على الحدود في الجولان المحتل وإرسال قوة من الشرطة العسكرية الروسية إلى مرفأ اللاذقية، والقيام بمناورات مدرعة مشتركة.
فهل تأتي هذه الخطوة رداً على امتعاض الرأي العام والجيش السوري من الأداء الروسي تجاه إسرائيل، أم تأتي هذه الخطوة ضمن الردود التي يرسلها الرئيس فلاديمير بوتين إلى «ولد أميركا المدلل» كجزء من الردع الروسي في أوكرانيا التي لا تزال أزمتها في مستوى الذروة؟
كما أن الولايات المتحدة، تسعى لإمداد أوروبا بالغاز، من مصادر مختلفة، عوضاً عن الإمدادات الروسية، عقب الأزمة التي نشبت بين موسكو وواشنطن حول قرار الإخيرة بإمكانية ضم أوكرانيا وجورجيا إلى حلف شمال الأطلسي ونشر صواريخ إستراتيجية تحتاج إلى أقل من دقائق لبلوغ موسكو.
وطلبت روسيا، رسالة أميركية تقدم بها ضمانات خطية بعدم المساس بأمنها القومي بضم هذه الدول إلى «الناتو». وردت أميركا بمضمون اعتبرته موسكو غير مطمئن لأنه «لا يمنح الكثير من التفاؤل»، من دون اغلاق باب المفاوضات.
إلا ان الاستفزازات تسجل تطوراً سلبياً في منطقة دونباس الأوكرانية والتي يسيطر عليها انفصاليون يطالبون بالانضمام الى روسيا.
هذا يعني أنه يتعين على بوتين البحث عن طرق بأساليب مختلفة لإقناع أميركا ان خطوتها ستجر خسارة مباشرة لها أو الذهاب إلى الحرب التي يريد الجميع تجنبها إذا استطاعوا، من دون خروج أي طرف خاسر.
وفي حال هجوم روسيا على أوكرانيا، فإن أميركا لن تتضرر، بل ستكون لأوكرانيا الحصة الأكبر من الأضرار، تتبعها أوروبا التي ستخسر مصدر الطاقة وشريكا اقتصاديا قويا ووتعرض لنزوح مهاجرين جدد والوقوع مجدداً في القبضة الأميركية المسيطرة على القارة الأوروبية بشكل كبير.
بالإضافة إلى ذلك، فإن بوتين لن يكون مسروراً بأي خطوة لا تهتز بها فرائص أميركا مباشرة، هي التي تحاول حشره في الزاوية وتترك له القليل من الخيارات الظاهرة وتحاول جره إلى حرب من دون أن تكون أميركا في الخط الأول من المواجهة.
ولذلك فإن بوتين، المعروف بذكائه، لن يذهب نحو الخيار الذي يبقي أميركا خارج حلبة المصارعة. وهذا يعني أنه ينبغي عليه ضربها من جوانب متعددة تشعر فيها بالألم وتتراجع بطريقة تحفظ ماء الوجه للجميع، بدل الحرب المدمرة.
وهذا ما حصل فعلاً في أزمة كوبا والصواريخ التي نشرها الاتحاد السوفياتي السابق في حينها عام 1962 ولم تنسحب إلا حين أخرجت أميركا صواريخها من تركيا، من دون أن يكشف عن تفاصيل الاتفاق.
وقد اعتبرت أميركا وجود صواريخ تحتاج لوقت قليل جداً لضرب العواصم الأميركية، تهديداً أمنياً وجودياً لها.
وهذا السيناريو يحصل اليوم في القارة الأوروبية وجميع الدول التي كانت تنتمي إلى الاتحاد السوفياتي السابق، والتي يطالب الكرملين من أميركا بعدم نشر صواريخ إستراتيجية فيها وعدم قبول عضوية أي دولة جديدة في «الناتو».
كييف ليست حليفة أميركا لكي تذهب واشنطن للحرب من أجلها. بل هي صديقة لا تستوفي الشروط لدخول «الناتو» الذي ينص بنده الخامس على ضرورة الدفاع عن أي عضو عندما يتعرض للخطر، مع العلم أن الحلف لم يبد استعداده للدفاع عن تركيا عندما احتاجت ذلك.
وتالياً فإن أميركا تستطيع خفض جناحها أمام روسيا لتجنب الحرب، بينما لا تستطيع موسكو غض النظر عن الخطر المستقبلي الذي يتهددها بتواجد أسلحة متوسطة المدى مباشرة على حدودها وقريبة منها.
وتكثر التكهنات عما تستطيع روسيا فعله لإقناع أميركا ألّا تدفع الأمور إلى المواجهة. فهناك مساعدة مقاطعة دونباس الانفصالية لتستقل أكثر عن أوكرانيا وتضمها روسيا إليها كما فعلت في جزيرة القرم.
إلا أن ذلك لن يشكل الرادع الإستراتيجي لأميركا التي من الممكن أن تعود للهجوم من جديد بضم أوكرانيا وجورجيا من بعدها إلى الحلف الغربي.
وتستطيع موسكو أن تغمز من جهة إسرائيل وتتخلى عن حماية مصالحها بمنعها من مهاجمة سورية.
وقد بدأت ترسل إشاراة التذمر من الطلعات الإسرائيلية بتشويشها أخيراً على المقاتلات بتدبير لا سابق له.
وهذا التصرف من شأنه إعطاء دفع أكبر لإنقاذ سياسة جو بايدن داخلياً اذا قرر التراجع عن التصعيد بوجه موسكو ويسمح لبوتين بالتخلص من خصومه في الداخل الموالين للعلاقة المميزة مع إسرائيل وأميركا.
وبدأت روسيا مناورات متعددة في البحر الأسود وبحر البلطيق، وكذلك نقلت طائراتها المتقدمة SU-35 إلى بيلاروسيا ضمن «عمليات تدريب ومناورات» تستمر حتى 20 فبراير الجاري.
ولكن هناك ساحة يتفق عليها الأميركي والروسي: لا حرب عالمية ثالثة في الأفق ولكن هذا لا يعني أن روسيا ستتخلى عن مطلبها.
ولذلك فعلى المتضرر الأكبر، أوروبا، التقدم لإحضار السلم وإنزال الطرفين عن الشجرة إذا ما توافرت الإرادة لذلك والضغط على واشنطن لدفعها الى التراجع قبل انقسام «الناتو».
ليست العبرة بوجود قوات إضافية ثابتة على الحدود مع أوكرانيا أو في بيلاروسيا تكفي لاحتلال البلاد بأكملها. فروسيا تستطيع الزج بقوات كبيرة بسرعة ولن تنفع كل الأسلحة التي ترسلها أميركا وكندا وبريطانيا إلى أوكرانيا لتدافع عن نفسها أمام أي غزو روسي.
بل العبرة بإيجاد تكافئ بين الخطر الحالي الذي لا تستطيع روسيا التغاضي عنه وبين إزالته لفترة طويلة تفقد شهية أميركا بمعاودة الكرة. وهذا يعني أن للقصة بقية لأن الحلول النهائية مازالت لم تتبلور بشكل نهائي.