من الوطن جاء الاستيطان والذي ولد من رحم الهجرات... فالهجرة تُعد فعلاً إنسانياً خالصاً بحثاً عن الرزق والأمن والكرامة. وبالتالي سعى الإنسان منذ الخليقة للبحث عن الأفضل...

هاجر الأنبياء للبحث عن الحرية والإيمان، فنوح - عليه السلام - أعاد بناء الحياة بعد الطوفان، وموسى - عليه السلام - قاد قومه للخلاص من الاستبداد، وسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل من هجرته من مكة إلى المدينة ميلاداً لأمة جديدة أساسها العدل والمساواة.

لقد أثبتت تلك الهجرات أن الولاء يقاس بالقيم التي يحملها الإنسان أينما ارتحل .

فالوطن ليس حدوداً جغرافية فحسب بل منظومة من القيم المشتركة التي تربط الإنسان بمكانه. لكن هذا الانتماء لا يتحقق إلا حين يترجم إلى عمل نافع ومخلص يخدم الأرض وأهلها.

لقد قدّم التاريخ الإسلامي نموذجاً متقدّماً في فهم هذا المعنى، حين لم يكن الأصل أو اللون معياراً للمكانة أو الولاء... فبلال بن رباح القادم من أرض الحبشة، أصبح صوت الإسلام الأول في المدينة المنوّرة. وصهيب الرومي وسلمان الفارسي لم يكونا من أبناء الجزيرة، ومع ذلك صارا من أعمدة الدعوة والقيادة.

كانت القيمة تُقاس بالإيمان والعمل، لا بالعِرق والنسب.. صلاح الدين الأيوبي الكردي الأصل، يوحّد العرب والترك والفرس تحت راية واحدة لتحرير القدس.

وفي مجال العِلم، سجّل البخاري وابن سينا والرازي أسماءهم في سجل الحضارة الإسلامية، رغم أن أصولهم تمتد إلى خراسان وبلاد ما وراء النهر وغيرهم في مجالات لا يتسع المجال لذكرها.

أما في التاريخ الحديث، فالدول الكبرى التي قامت على الهجرة، مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ودول أوروبا، تُعدّ نموذجاً معاصراً لترسيخ مبدأ أن الوطنية تُقاس بالمواطنة الفاعلة والإنجاز لا بالنشأة.

فقد تبوأ مهاجرون أو أبناء مهاجرين أعلى المناصب السياسية والعلمية... فالوطن الذي يُبنى على العمل والإخلاص يزدهر مهما تنوّعت أصول أبنائه.

إنّ الدول التي تقوم على الهجرة والتنوّع بحاجة إلى ترسيخ وعي جديد يجعل الولاء عملاً لا شعاراً، وإنجازاً لا ادعاء. فالمواطنة ليست امتيازاً بل التزام. والوطنية تُقاس بعدد العقول التي تعمل من أجل الوطن والقلوب التي تخلص له.

ومن يزرع في وطنه بذرة إنجاز، فهو أكثر وطنية ممن يرفع الشعارات التي لا تخدم بل تهدم.