ازدواجية مقيتة، بل مريضة... تلك هي ازدواجية الرجل الشرقي، وشريكته الصامتة؛ حين تصبح المرأة أداة في يد القيد الذي يظلمها، والمجتمع الذي يدفنها حية.

مقالي هذا، ليس فكراً نسوياً خالصاً، بل وقفة مجتمعية ملؤها العدالة، تسعى إلى تسليط الضوء على خللٍ لا يُداوى بالصمت، ولا يُعالج بالتنازل، والمسؤولية تقع على فئة من الرجال، وليس كل الرجال، فإننا لا نعمم، ولا ننفي وجود شريحة من الذين رحمهم ربي، حملوا وعياً حقيقياً، ونُبلاً أصيلاً، وأخلاقاً رفعتهم قبل أن يرفعهم جنس أو ميلاد.

نحن نتحدث هنا عن فئة ضالّة... لا عن الجميع.

فسلوكهم لم يعد سلوكاً عابراً، بل بات بنيةً متأصلة، يصعب فكّ شيفرتها أو حتى تصديقها.

تراهم في المساحات العامة متفتحين، متقبلين، وربما حتى داعمين... أو يظهرون في هيئة «دونجوان» عصره، المثقف المتعلم، اللبق، الجذّاب في حضوره وكلامه.

لكن في الخاص، أو حين يعود إلى بيته، يتقن دوراً مختلفاً تماماً، فهو ناقدٌ متشنّج لكل محاولة للتحضّر أو التغيير.

تجده يتجاهل قضايا الأمة الكبرى، وعلى رأسها فلسطين، لكنه يحرص على تسديد سهامه نحو أي امرأة تحاول فقط أن تعيش بكرامة.

ينتقد كل رأي يخالفه من برجٍ عاجي، منفصل عن الواقع، وكأنه المُنظّر الأوحد، بينما لا يرى التناقضات التي تسكنه، ولا يواجه تنازلاته المستترة خلف قناع يرى الأمور من منظاره.

وكل حركة تنادي بتحرير المرأة أو تدافع عن حقوقها، تتحول في نظره إلى خطر يهدد «منظومة الأسرة ويحطم أركانها».

فالشر، كل الشر، ينبع من «النسوية»، بينما يتجاهل تصرفاته من قمع وكبت وازدراء!

لكن الحقيقة أبسط من ذلك بكثير. فالحركات النسوية، أو غيرها، ككل حراك بشري، فيها الصالح والطالح، والعاقل ينتقي منه ما شاء. لكن ما يثير ذعره الإدراك. ذعره الحقيقي من امرأة تعي ما لها وما عليها، امرأة تقف على أرض صلبة، لا تُرهبها العبارات الموروثة من مثل: «الرجل شايل عيبه»، بل تردّ عليه بوعي جديد: «عيبه يشيله بروحه».

امرأة اليوم ليست امرأة الأمس.

ليست ظلّ أمّه، ولا نسخة من جدّته.

إنها قارئة، مثقفة، متعلّمة، تعرف حدودها، لا ترضى بالذل، ولا تصمت على الإهانة.

وبين إعجابه بها، وبين خوفه منها، يعيش هذا الرجل ازدواجية مريعة:

يعادي الأولى رغم افتتانه بها، ويحاول اصطيادها بأول فرصة، لكنه يتزوج من الثانية باسم «أم العيال»، وعلى ذوق الوالدة... تلك التي تهمس له دائماً: «ألف بنت تتمناك».

وهنا تتسع دائرة الازدواجية... لتصبح خيانة اجتماعية.

فالمرأة المؤدلجة، التي اختيرت لتكون «زوجة تقليدية»، أو عاشت دور «الابنة المثالية»، لم تحررها الشهادات العلمية، ولم ترتقِ بها الكتب، فصارت شريكة في القيد، لا في الفهم أو التفهّم.

نراها غاضبة، حزينة، محرومة من كثير من حقوقها، لكنها بدل أن تواجه المجتمع الذي قيدها، توجه جام غضبها نحو نساء أخريات... نساء لم يخفن من أن يكنّ أنفسهن، نساء اخترن ما لم تجرؤ هي على اختياره.

تصبح هذه المرأة، بوعي أو دون وعي، حارسة على باب الذكورية؛ تُضعف بناتها، تُسيطر عليهن، تقمعهن، وتزرع في نفوسهن كراهية أنوثتهن بكل طريقة ممكنة وتصفّق في الوقت ذاته لهيمنة ابنها «محرمها المزعوم»، أو لسطوة زوجها عليها، وتبتهج حين تُقصى أو تُكسر امرأة أخرى، وكأنها تنتقم لخذلانها بصوتٍ مختلطٍ بين العجز، والجبن، والخبث.

أنا أعرف هؤلاء النسوة... وأعلم أنكن صادفتن مثلهن في معترك الحياة!

الازدواجية مرض يصيب الفرد، ويمتدّ ليخلخل المنظومة بأكملها، منظومة تعيد إنتاج ذاتها كل يوم، في كل جيل، وكل بيت، خالقةً سلاسل جديدة من القهر، وأرواحاً عليلة... ولا تُشفى إلا بوعيٍ وشجاعةٍ من أفرادها، أو حين يجرؤ المجتمع على النظر في مرآته بصدق، ويعيد صياغة مفاهيمه، لا على أساس الهيمنة، بل على أساس العدالة الوسيطة، والكرامة، والمصداقية.