نفضت المباركية «درة الكويت» ركام الحريق الذي كاد يلتهم ثياب تراثها، واستعادت وعيها بعد الدخان الذي كتم أنفاسها، واسترجعت بريقاً يشع تاريخاً وأصالة وعراقة...
النار التي استعرت في أوصال المباركية، وإن امتدت خراطيمها في أكثر من سوق، لم يشأ لهبها أن يتمدد أكثر من ذلك، استجابة لدعاء الكويت قاطبة «يا نار كوني برداً وسلاماً»، واحتراماً لحسرة أهل الكويت الذين شعروا أن نبض الحياة كاد أن يتوقف، خصوصاً أن الكويتيين يعتبرون المباركية رئة المتعة والتسوق واجترار الذكريات، وكل كويتي له في المباركية حكاية، وله في أسواقها وقهاويها ومطاعمها قصة.
تضم المباركية الأماكن التاريخية، مثل كشك مبارك والمدرسة المباركية، والأسواق مثل سوق الذهب والحلوى والصفافير والبشوت والعطارين والصراريف والغتر والعقل والمسابيح والسمك واللحم والخضراوات والحريم والتمر والجت، بالإضافة إلى مكتبة رويح وقيصرية بن رشدان وقهوة بوناشي الشهيرة، وقهوة الدلالوة ذائعة الصيت.
وما يميز سوق المباركية العتيد احتفاظه بالشكل العمراني القديم، مزودًا ببعض التدخلات الضرورية التي تجعل السوق أكثر جذباً للزوار وملاءمة للعصر الحديث، فيمنح البعد التاريخي للسوق عوامل تراثية تجعله قبلة محببة لمحبي التراث. وهذه نظرة إلى ما تحتويه منطقة المباركية التراثية.
كشك مبارك... مقر حكم
في قلب المباركية تلمح كشك مبارك الذي شيده الشيخ مبارك الكبير الحاكم السابع لدولة الكويت قبل 130 عاماً، والذي يعتبر اللبنة الأساسية لإرساء قواعد الكويت الحديثة، ويعتبر الكشك ملمحاً مهماً من تاريخ الكويت، ومقراً مصغراً للحكم، يعقد فيه الشيخ مبارك الصباح الاجتماعات واللقاءات مع أهل الكويت للتباحث حول الشؤون الخاصة بالبلد، فيعرضون عليه مشكلاتهم والعقبات التي تعترضهم، ويسعى الحاكم لوضع الحلول لها فكان الكشك بمثابة مجلس للشورى.
المدرسة المباركية... شاهد سَبْقٍ
في ركن قصي في المنطقة تقع المدرسة المباركية، اذ كان للكويت السبق في المنطقة بإنشاء اول مدرسة نظامية في المنطقة، تعتمد على منهج دراسي وخطة تربوية تنفذها هيئة التدريس خلافاً لما كان يحدث في الكتاتيب من تعليم بطرق بدائية يتولاه الملا ويقتصر على تعليم مبادئ القراءة والحساب.
وأنشئت المدرسة المباركية في ديسمبر في عام 1911، وعلى إثر ذلك، ارتأت إدارة المدرسة تشكيل مجلس مالي، يعنى بإدارة الأمور المالية والإنفاق لضمان سير عملية التعليم بكل سهولة ويسر، ولاسيما أن المدرسة كانت تعتمد على جمع التبرعات للإنفاق على متطلبات المؤسسة التربوية الحديثة.
مقهى أبوناشي... مستودع الأحداث
يعد مقهى أبو ناشي أولَ وأقدمَ مقهى في دولة الكويت، وأحدَ المعالم المرتبطة بتاريخٍ طويلٍ يعج بالأحداثِ والتطورات السياسية، وشُيِّدَ المقهى في عهد الشيخ عبدالله بن صباح الأول الذي تولى الحكم سنة 1762، وكان الحاكم يجلس في المقهى، ويتدبَّرُ فيه شؤون البلاد الخاصة والعامة، وشَكَّلَ المقهى جانباً مهماً من النشاط الاجتماعي والاقتصادي للكويتيين قديماً، إذ يقصده التجار ونواخذة الغوص والأهالي لتبادل الأحاديث وإجراء معاملاتهم التجارية من بيع وشراء، واستضافة تجار الخليج العربي بهدف التبادل التجاري وعقد الصفقات المختلفة.
وكان يقع مقهى بوناشي عند مدخل ساحة المناخ ثم انتقل إلى السوق الداخلي وبعد هدم المقهى انتقل إلى ساحة الصفاة، وعند تجديد السوق الداخلي الحالي، قامت الحكومة بإعطاء هذا المقهى لعائلة بوناشي للمحافظة على التراث العتيد والذكريات الكويتية القديمة. ويبقى المقهى محفوراً في وجدان الكويتيين، ومعبراً عن لحظات الحنين، وشاهداً على ذكريات السنين.
قيصرية ابن رشدان... مقر «البزازين»
منذ 100 عام مضت، شُيِّدت قيصرية ابن رشدان بالمباركية لتضم البزازين (بائعي القماش) الذين فضلوا الانتقال من مقرهم القديم في سوق خليل القطان، إلى سوق التجار رغبة منهم في الاستفادة من العرض المغري الذي قدمه لهم صاحب السوق المرحوم راشد بن رشدان العازمي، أحد أكبر تجار العقار وأصحاب السفن في بداية القرن العشرين، وعرض ابن رشدان على بائعي القماش لاستمالتهم في الانتقال إلى سوق التجار الاعفاء من الإيجار لمدة سنة كاملة، وبعد انقضاء السنة تكون قيمة القسط الشهري روبية واحدة للدكان، وبذلك ازدهر سوق ابن رشدان، وأصبح من الأسواق المهمة في الكويت لموقعة المميز وانخفاض إيجاراته.
مقهى الدلالوه... عبق الماضي
يتمتع مقهى الدلالوه بموقع استراتيجي، حيث يتمركز في قلب المباركية، ويشتهر بطابعه التراثي، فهو يقع بين محلات المباركية المتنوعة، وبالرغم من قصر قائمة المشروبات التي يقدمها هذا المقهى، لكن طول عمر هذا المبنى التاريخي يجذب إليه الزبائن وبكثرة، فالمقهى لم يزل يحتفظ برونقه الشعبي شكلاً ومضموناً لاسيما انه يحمل إرثًا عريقاً فيعود تاريخ إنشائه إلى ما قبل أكثر من مئة عام، وعبق التاريخ يفوح من جنبات هذا المقهى الأثري، ويقدم المقهى لزبائنه الشاي والقهوة ضمن أكواب وفناجين تراثية تتنوع في أشكالها وتتميز في رونقها.
سوق الحريم... مقصد النساء
اكتسب سوق الحريم الذي لم تطله نار الحريق، شهرة كبيرة فكان الأول من نوعه في منطقة الخليج العربي الذي تعرض فيه النساء بضائعهن للزبائن ويقمن بعمليات البيع والشراء.
وبالرغم من قلة الأمكنة المخصصة للبائعات وقتذاك، أي قبل أكثر من 90 عاما، فإن شعاع هذا السوق سطع نوره بعيداً، واجتذب النساء الباحثات عن حاجاتهن الضرورية، كما أن السوق عمومًا كان يوفر بضائع أخرى يحتاجها جميع أفراد الأسرة، واكتسب السوق اسمه من النساء البائعات اللاتي بحثن عن مصدر رزق في زمن الضنك والعوز.
سوق السمك... عشق الكويتيين للبحر
عشق الكويتيون البحر منذ الأزل، فقد شقوا عبابه بحثاً عن الرزق وتأمين لقمة العيش متسلحين بعزيمة فولاذية، وإرادة حديدية لم تنل منها قسوة الظروف وصعوبتها، فوجدوا في أعماق البحر الدر الكامن الذي يجلب الثروة كما أكلوا منه زاداً شهياً ساهم في تقويض شظف العيش وضيقه.
وبديهيا أن يكون للأسماك سوق رائجة في بلد الهولو واليامال، ولاسيما أن السمك يشكل عنصراً أساسياً في مائدة الكويتيين القدامى، كما أن البحارة والصيادين الأوائل خبروا البحر وأدركوا خيراته، فنهلوا منه خيراً وفيراً يدر عليهم مالاً كثيراً، فكان سوق السمك الواقع في منطقة المباركية شاهداً على متانة علاقة الكويتيين الأوائل بالبحر.
سوق العطارين... مستشفى الكويت
لم يكن في الكويت قبل أكثر من 120 عامًا، أطباء وصيدليات، بل كان يعتمد الناس على العطار - صاحب محل العطارة - في معالجتهم من الأمراض أو الأسقام، فهم يجدون ضالتهم عنده كما أن العطار اعتمد على الخبرة والممارسة، فيلجأ الناس إلى العطارين لإعطائهم وصفة من الأعشاب أو ما شابه.
واشتهر العطار بلقب محلي في الكويت هو «الحواج» الذي يمتهن العطارة وتكون لديه معرفة تامة بالنباتات والأعشاب الطبية، فكان يبيع العطار أو الحواج الأعشاب التي اعتاد الناس استخدامها لمكافحة المرض أو المساهمة في الشفاء منه. وتتنوع أصناف الأعشاب والنباتات في محلات العطارة لتشمل كل ما يخطر على البال.
سوق الصراريف... مركز تجاري عالمي
لم يكن سوق الصراريف بعيداً عن المحلات المختلفة من حيث الموقع، فثمة ارتباط كبير بين سوق تبديل العملات والمعاملات المالية الأخرى وبين الدكاكين المحيطة به، وكان التقارب جغرافياً يمهد لأن تكون الكويت مركزاً تجارياً مهماً، كما أن وجود سوق الصراريف في هذا الموقع يسهل على الزبائن الراغبين باستبدال النقود التي بحوزتهم، فالكل يحتاج إلى محلات الصرافة سواء في استبدال عملة ما بالعملة المحلية أو أي عملة أخرى.
ورواج محلات الصرافة يعني انتعاش السوق أو بمعنى آخر ازدهار الاقتصاد، فهي سلسلة متتابعة إن حدث خلل في احدى حلقاتها حتماً ستتأثر الحلقات الأخرى.
ولم يكن الشكل الحالي للصرافة هو المعتمد سابقاً فقد كان الصراف يستأجر محلاً صغيرًا يجلس على الأرض في وسط الدكان ويضع أمامه صندوقا خشبيا طوله أقل من متر فيه العملات التي يحتاجها.
كما أن للصندوق غطاءً زجاجيا له برواز خشبي لكشف ما به من عملات ويشتري الصراف العملات المختلفة من التجار الذين يتوافدون على الكويت من الدول المجاورة لشراء حاجاتهم منها.
سوق التمر... سلعة للجميع
يقع عند المدخل الجنوبي للسوق الداخلي، وكان مخصصاً لبيع التمر بأسعار زهيدة جداً وفقاً للأنواع التي يوفرها، كما أن في المباركية كان هناك سوق آخر يقع بالقرب من سوق الحمام وهو مخصص لبيع التمر لأصحاب الدخول القليلة أو لنواخذة السفن، بغرض تقديمه كغذاء للبحارة أثناء الغوص، في حين توجد الأنواع الأكثر جودة في السوق القريب من سكة العتيقي الذي يعد الأكبر من حيث عدد المحلات والأكثر إقبالًا في ذلك الوقت.
سوق البشوت... بائع الأناقة
يعود إلى مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، عندما انتقل من سوق التجار إلى مقره الحالي على الجانب الشرقي من سوق الغربللي المطل على ساحة الصرافين، والممتد حتى ساحة الصفاة. ورغم التطور الذي طرأ على الأزياء والملابس الرجالية في الكويت، إلا أن البشت بقي محتفظاً بمكانته الاجتماعية وهيبته وشموخه، وظل رمزاً للأناقة وشاهداً على الوقار، وشعاراً لمهابة مرتديه.
ويفضل الوجهاء وعلية القوم في الماضي ارتداء البشت في معظم الأوقات ومختلف المناسبات، إلا أن ارتداءه أخيراً اقتصر على المناسبات الرسمية والأعراس.
وارتبطت صناعة البشوت بعدد من العوائل الكويتية الذين عملوا بتجارتها وبيعها واعتبروها تراثاً ومهنة عريقة، ومن أبرز أنواع البشوت التي يفضلها الكويتيون البشت النجفي الذي يغزل وينسج باليد ويتميز بأنه خفيف الوزن ورفيع الخيط ومن أنواع البشوت أيضاً البشت اللندني الخفيف والمتوسط ثم النجفي الياباني وأكثر الألوان المفضلة هو الأسود والسكري.