«الراي» تنشر على حلقات كتاب «الشيخ أحمد الجابر.. نشأته وأحداث عهده وإنجازاته»
حاكم الكويت العاشر... الأمير المتسامح والقريب من القلوب
- بشوش لا يحبّ تكدير أحد من رعيته ومولع بمطالعة الجرائد والمجلات
- جذّاب صبور على الشدائد ملّاك لعواطفه حتى في أعظم المصائب
- بدويّ مع الرُّحل وحضري مع الحضر... وأوروبي مع أبناء التايمز
- كان ذا علاقات اجتماعية في سن مبكرة وفارساً شجاعاً ومحباً للصيد والقنص
- تهيَّأ للسياسة بتشجيع من جده الشيخ مبارك الصباح ووالده الشيخ جابر المبارك
- يحسن مقابلة زوّاره ويعطي لكل جليس حقه في مجلسه ويرضيه بحديثه
- من تسامحه أنه كان يشارك الأجانب احتفالات «أعياد الميلاد» ويبادلهم الهدايا
تنشر «الراي» ابتداء من اليوم وعلى حلقات، كتاب «الشيخ أحمد الجابر الصباح.. نشأته وأحداث عهده وإنجازاته» للمؤلف علي غلوم الرئيس، الذي يقدم صورة شاملة عن الحياة في الكويت خلال حكم الشيخ أحمد الجابر الصباح، حاكم الكويت العاشر، مدعومة بالوثائق والصور التي تنشر للمرة الأولى.
وتتطرق الحلقة الأولى من المذكرات إلى بداية النشأة الأولى، للشيخ أحمد الجابر وسماته الشخصية وكيف أثرت صفاته وتربيته في بيت الحكم على طبيعة رؤيته وفهمه للمجتمع الكويتي بمن فيهم الأجانب حيث كان مرافقاً وملازماً لوالده الشيخ جابر المبارك الصباح، وعمه الشيخ سالم المبارك الصباح، وجده الشيخ مبارك الصباح في معظم المناسبات مسجلاً حضوره الدائم معهم، الأمر الذي شعرت به «إليانور كالفرلي» وهي أول طبيبة في الكويت والتي عبرت عن إعجابها بخلق التسامح والمجاملة الراقية مع الأجانب من قبل الشيخ أحمد الجابر.
متواضع بشوش
كان من التواضع بحيث لا يحرم الفقير الضعيف ما يوليه الغني القوي من تعطف والتفات، على ما له من مكانة سامية وعز مشمخر. وإنها لصفة لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.
يغضي عن كثير من الهفوات وهو قادر على الأخذ بها وإنزال أربابها إلى الدرك الأسفل، والعفو عند المقدرة من أجَلّ ما يتحلى به الملوك. له محيا بشوش ضحوك جذاب صبور على الشدائد والمكاره، ملّاك لعواطفه حتى في أعظم المصائب، يمنح زائريه احتفاءه حتى يخيل لكل واحد أنه هو بيت القصيد، لا يحب تكدير أحد من رعيته مهما كانت منزلته، له ولع بمطالعة الجرائد والمجلات، ونفرة من الظلم والاستبداد، وله عقل واسع ونظر في عواقب الأمور.
كان مسالماً رقيق المشاعر يحسن مقابلة زواره ويعطي لكل جليس حقه في مجلسه، ويرضيه بحديثه، هادئ الطبع. ينام بسرعة مدهشة ويستيقظ مع الطيور. بدوي مع الرُّحل، حضري مع الحضر، أوروبي مع أبناء التايمز، بحري في السفينة، أجمل أمراء العرب على الإطلاق، واسع العينين، جميل التكوين بديعه، موسيقي الصوت.
كان اجتماعياً وذا علاقات اجتماعية في سن مبكرة، وقد تهيَّأ للسياسة بتشجيع من جده الشيخ مبارك الصباح ووالده الشيخ جابر المبارك الصباح، وكان فارساً شجاعاً ومحباً للصيد والقنص.
متسامح مجامل
ومن أخلاقه التسامح والمجاملة الراقية مع الأجانب، فقد وصفت الطبيبة إليانور كالفرلي زيارته لهم عشية أحد أعياد الميلاد، ولم تذكر التاريخ على النحو التالي:
كان الشيخ أحمد هو نفسه الشاب المعتد بنفسه الواثق من مقدرته ورباطة جأشه، الذي وقف إبان حكم الشيخ سالم أمام بوابة المدينة حين دب الذعر بالأهلين، أمام خطر هجوم الإخوان (في أثناء حرب الجهراء)، بعد ارتقائه سدة الحكم اتبع النهج الغربي في قصره المعروف بقصر دسمان الواقع وسط الصحراء خلف المدينة، وهو أيضاً كثيراً ما كان يتردد علينا في البيت، ليتناول معنا الطعام كما كان يزور بعض زملائنا أيضاً.
إنني أذكر في هذه المناسبة يوم كان الشيخ أحمد يتناول العشاء معنا في حفلة أقمناها على شرفه، قبل حلول أول عيد ميلاد تحضره إيفا في الكويت، وكان يعرف أن عيد الميلاد على الأبواب في الوقت الذي كنت وإدوين فيه نصغي إلى الأطفال وهم يتمرنون على ترتيل أناشيد العيد. في تلك الليلة بالذات كان الشيخ كعادته منشرح الصدر، يُشرق وجهه بعلامات السرور والارتياح.
عيد الميلاد
تتابع الطبيبة إليانور كالفرلي حديثها:
كنا نتحدث عن الأعياد لدى المسلمين والمسيحيين، حين مال إلي يسألني: (كيف ستقضون العيد؟ هل ستقومون كما يفعل المسلمون بزيارة الأصدقاء وتهنئتهم؟).
أجبته: ليس تماماً، اعتدنا في عائلتنا أن نقوم في الصباح - وقبل كل شيء - بترتيل الأناشيد والغناء حول شجرة عيد الميلاد، ونتبادل بعد ذلك تقديم الهدايا، وبسبب أن لنا أطفالاً فإن أصدقاءنا من الإنكليز والأمريكان يحضرون عادة إلى بيتنا، وبعد الظهر يتجمع المسيحيون من أبناء الطائفة في حفلة حول الشجرة، وطيلة أسبوع بعد ذلك يحضر أصدقاؤنا من المسلمين لزيارتنا ومشاهدة الشجرة.
ابتسم الشيخ لحظة ثم قال: هل يمكنني الحضور إلى حفلتكم العائلية تلك؟
ولقد سررنا طبعاً أن يكون في مقدورنا تلبية رغبة الشيخ أحمد، إنه لشرف كبير لنا أن يحضر الشيخ احتفالنا ذاك، أخبرناه أننا اعتدنا أن نجتمع أولاً في غرفة الجلوس، وأن تنتظر حضور الكولونيل مور (المعتمد السياسي في الكويت 1920-1929) وزوجته مع ميلري وزوجته أيضاً، وكذلك بقية الزملاء، قبل أن ندخل إلى حيث توجد شجرة عيد الميلاد، إلا أننا في هذه السنة سوف ننتظر تشريفه بالذات، ليكون أمامنا قبل أن ندخل إلى الصالون حيث الشجرة.
كان عيداً لن ننساه مهما حيينا، فبناتنا انهمكن في الإعداد له بكل ما في الطفولة من براءة وحماسة وفرح، تساعدهن إيفا في تهيئة أكياس الهدايا قبل كل شيء لضيف الشرف - الشيخ أحمد- وكذلك لكل فرد من الذين كنا نتوقع حضورهم.
مشاركة
وتكمل كالفرلي: وفي الصباح رحنا ننتظر قدوم الشيخ أحمد الذي كان آخر من وصل في سيارته الأنيقة، يحف به عدد من الأتباع والحاشية، ظلوا في الخارج حين ارتقى هو الدرجات الموصلة إلى الشرفة.
كان يضع على رأسه كوفية من الكشمير الأبيض مطرزة حوافها بعقال من الصوف ذي الوبر الكثيف المطرز بالذهب، وعلى كتفيه عباءة (بشت) مطرزة بالذهب أيضاً من عند الرقبة حتى حافة حذائه الأوروبي.
«عيد سعيد»، قالها الشيخ بلغة إنكليزية سليمة، أتْبَعَها بابتسامة لما رأى معالم الدهشة بادية على وجوهنا، وكنا قد دخلنا جميعاً إلى الشرفة للسلام عليه والاستفسار عن صحته، بينما بادلنا هو بكل لياقة وتهذيب الاستفسار والتحية، ولما دخل البيت فاضت رائحة البخور والعنبر وزيت الورد.. تلك عادة العرب رجالاً ونساء في الأعياد والمناسبات المهمة، بعد ذلك بقليل فتح باب غرفة الجلوس، وتجمعنا حول الشجرة المثقلة بالزينة والأوراق الملونة والهدايا.
ومن الطبيعي أن عيون الأطفال لم تخطئ إبان الاحتفال أكياس الهدايا والزينات على الشجرة، ولم تنج المخيلة من تصور أن تلك الهدايا ستكون لهم بعد وقت قصير. ولما حان الوقت لتوزيع الهدايا تقدمت كريس نيابة عن أختيها فقدمت إلى سمو الشيخ الصندوق الملفوف بالأشرطة الحريرية الملونة، وفي داخله الهدية التي اختيرت له من قبل. وهنا مد الشيخ يده إلى جيبه وأخرجها تحمل رزمة من الحرير الموسلين ملفوفة بخيط ملون ناولها لغريس التي انهمكت للحال في محاولة فتحها. وكتمنا أنفاسنا في انتظار ما ستكون الهدية في الرزمة تلك وشهقنا حين ظهرت أمام أعيننا حبات كبيرة من اللؤلؤ - مئة حبة بالضبط كما عددناها في ما بعد - استخرجها الغواصون الكويتيون من أعماق البحر.
توديع
وتقول الطبيبة إليانور كالفرلي: «وفي يوم مغادرتهم الكويت كبادرة أخيرة جاء (الشيخ أحمد) في وقت تناول الشاي إلى بيتنا، ليودعنا ويقدم يخته الفخم كي ننتقل فيه من الرصيف إلى السفينة».
كان الشيخ أحمد أول حاكم أراه وجهاً لوجه وأتحدث إليه ببساطة، الشيخ مبارك مثلاً لم أقابله، بل كان إدوين يذهب لزيارته وتقديم واجب الاحترام والتهنئة في الأعياد والمناسبات، ويصف لي حين يعود فخامة قاعة الاستقبال في القصر (قصر السيف)، وكيف أن السقف منقوش بالصور الرائعة (لوحات صور أميرات أوروبا) واللوحات الفنية.
ومن الطبيعي أنني لم أكن أرافق الرجال في زياراتهم تلك، بل كنت أذهب إلى حريم القصر في المناسبات، منذ أن تسلم الشيخ أحمد الحكم أصبح مألوفاً لدى النساء العاملات في الإرسالية، وكم كان سرورنا عظيماً، أن تتوقف به سيارته أمام بيت من بيوتنا في زيارة ولو خاطفة.
واليوم إذ جاء يودعنا، كان لطيفاً للغاية، وأعتقد أن ذلك راجع للزيارة التي قام بها إدوين إلى القصر قبل ذلك بالنيابة عن الجميع وناطقا بلسان الإرسالية، ليعرب لصاحب السمو الحاكم عن أن الإرسالية سوف تلتزم بسياسة الحكومة في أي نزاع ينفجر بين القبائل العربية في البلاد، كان ذلك القرار من أكثر القرارات التي اتخذتها الإرسالية حكمةً وبُعْدَ نظر.
في ذلك اليوم وبعد تناول الشاي واستئذاننا من صاحب السمو بالسفر، التفت إلينا بكلمات رائعة لا يمكن أن ننساها: (أكره أن أراكما تسافران، لقد كنت أنظر إليكما دوماً كأخ وأخت وأثق بكما و... صدقاني إني أحبكما من كل قلبي).
ترى كم كان يمكن أن يكون حزننا كبيراً في ذلك اليوم، ونحن نودع الشيخ أحمد لو كنا نعرف أننا لن نراه بعد ذلك اليوم ولن تقع عيوننا على وجهه؟
شاعر نبطيّ فذّ
مما تميّز به الشيخ أحمد الجابر اهتمامه بالشعر وحفظه له، ونظمه، فقد كان يتميز بشاعرية قوية، ويتجه في الشعر النبطي الذي يجيده اتجاه القصائد السهلة التناول الخفيفة من حيث تمكن الملحنين من تلحينها، والمغنين من إنشادها والمستمعين من حفظها.
ومنها هذه القصيدة:
یا بو بدر وِشْلون ليل السَّهر
يوم ان قلبي شاف غاية هواه
شرقي النفود وفوق جال البحر
واللي تمنى من حبيبه لقاه
نظَرتهن تسعة والعاشر قمر
لله در الليل واللي حواه
ليل جمَع لي كل ظبي عفر
والكل منهن تايه في غواه
الصاحب اللي عقب وصله نكر
مدري وشِللي في ضميره نواه
ارفق بحالي يا عديل النَّظَر
وارحم محِبٍّ طول هجرِك طواه
كم من عذول في هواكم هَذَر
يلوي كلامه ليت ربي لواه
لو هو مْشاهد مثل عيني عَذَر
أو شال مثلي حِبكم ما قواه
يوجه الشاعر قصيدته إلى صديقه (أبو بدر) المرحوم حمد السميط، وهو من رجال الكويت المعروفين، وكان من أصدقاء الشيخ أحمد الجابر الصباح كثير الالتقاء به، والجلوس إليه.
ويقول الدكتور يعقوب الغنيم: سمعت مباشرة من المرحوم الشيخ عبدالله الجابر أن هذه القصيدة للمرحوم الشيخ أحمد الجابر الصباح وأنا أطمئن إلى ما قاله الشيخ عبدالله، فهو لصيق بالشيخ أحمد في فترة حياته، ويعرف الكثير مما لا يعرفه غيره.
وله قصيدة أخرى جميلة يقول فيها:
يا حمد خللي نوالي بالصدود
مايل للغير ما أدري وشبلاه
خارب طبعه وصاير لي عنود
لي بغيته صد ولقاني قفاه
عشرته يا الله عساها ماتعود
يوم كل الناس دِرْيَت في خطاه
سيرة ذاتية
ولد الشيخ أحمد الجابر الصباح في الكويت عام 1298هـ الموافق 1880م، وقيل إنه ولد عام 1885. والشيخ عبدالله النوري يذكر أن ولادته كانت عام 1305هـ الموافق عام 1887م، في عهد الشيخ عبدالله (الثاني) الصباح، جده لأمه، وأنه تعلم القراءة والكتابة في كتاتيب الكويت.
هو حفيد الشيخ مبارك الصباح، والده الشيخ جابر مبارك الصباح، وأمه الشيخة شيخة عبدالله الصباح والدها حاكم الكويت الخامس.
وكان حنطيَّ اللون بهيَّ الطلعة، ذا عينين نافذتين، وابتسامة لا تفارق وجهه، يُرغم الناظر إليه على احترامه. صوته نافذ له صدى يسمع من بعيد، مربوع القامة، رشيق الجسم، سريع المشية بخطوة واسعة، ذا شخصية موقرة محتفظة بالهيبة.
أولاده (عبدالله، محمد، منيرة، أسماء، نورية، بدرية، جابر، نشمية، صباح، الجازي، العنود، موزة، خالد، نواف، مشعل، منصور، سميحة، فهد، فريحة، مشاعل، سهيرة، نعيمة، أمثال، نزيلة).