أكثر ما يحيرني لماذا يسرق الغني، والمكتفي؟ أرى الناس تجري وراء المال بلا هوادة، وترتجف من رسائل الخصومات!

«يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل». النساء:29

قال رسول الله،صلى الله عليه وسلم،:

(ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِن الحلالٍ أم مِن الحرام) رواه البخاري.

هو زماننا الذي نعيشه فعلاً، الذي أصبح الكثير من الناس لا يهمه سوى جمع الأموال، وكَنز الذهب، ولبس أغلى الثياب وركوب أفخم السيارات، وتصوير الموائد في أفخم المطاعم.

أما مصدر المال فمهمل، وكل الطرق إليه مباحة.

تطور اللصوص وأبدعوا في النهب، فتشكلت عصابات، تنظم العمل، وتوزع المهام، وتحدد الأهداف.

تحدد نقاط القوة والضعف، وتضع إستراتيجياتها على هذا الأساس. تستغل نقاط قوتها، وتقوي نقاط ضعفها، فأصبحت لها شبكات منظمة، ومراكز عمليات، تراقب وتنظم مشاريع السرقة، حتى تملأ الفراغ، وتتحايل على القوانين، بأشكال جديدة ومبتكرة. يجهل الناس طرقهم، وإن كانت القوانين تمنعهم.

ولو نظرنا إلى اللصوص، لوجدنا فيهم الغني والمكتفي والمسكين والفقير.

وأنا أستنكر من الأولين!

فالأول من يملك كفاية نفسه ويزيد، والثاني من يملك ما يسد حاجته الأساسية، فإن كانا لا يحتاجان للمال فلماذا يسرقان؟ الغني لم يكتفِ بالبيت الواسع، ولا اللباس الناعم، والطعام الفاخر، بل يلهث وراء الأموال لهث السباع على الغزلان!

هل الملل الشديد هو الذي يدفعه للبحث عن الاثارة؟ أم يتوهم بأن كل الناس تفعل ذلك؟ هل هي حاجة أم طمع؟

فالمال يجلب السلطة والسلطة تجلب النفوذ، والنفوذ يجلب المال والقوة! وهذه غاية عند بضعة من المكتفين الذين يرون اللصوص يصعدون، وفي الأموال يسفحون، وفي القصور العالية يسكنون.

لكن هل فكر في النهاية ؟ ألم ير في الأعوام السابقة كيف تساقطوا، وتناثروا!

كانوا يظنون بأن بضربهم للحقوق، أنهم يتمددون، وإلا بسيف الحق يقطعهم أدبارهم، ويهدم أركانهم، فوجدوا أنفسهم محاصرين من كل اتجاه، أمام قضاء لا يخاف إلا الله، فلا سبيل لهم للخلاص، فهل من متعظ؟ ماتت أخلاق كثير من الخلق، وأصبحوا يرون المال هو مصدر السعادة الأوحد، ومع قسوة القلب، واستباحة السحت، أوهمَ نفسه بأن الناس تسامح، ونسي أنه يبذر أبناءه ببذره، فاستثمر بالأموال ونسي الأولاد.

تحدّثت مع الكثير من أبناء جيلي المكتفين، فرأيت بعضهم يتوهم أن طريق الحلال صعب، وأن طريق الحرام سهل، فنسوا قول العلي القدير: ﴿لَن تُغنِيَ عَنهُم أَموالُهُم وَلا أَولادُهُم مِنَ اللَّهِ شَيئا أُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُم فيها خالِدونَ﴾ «المجادلة: 17»

الكل يعلم بأن رزقه مكتوب، فما غاية اللهث وراء الأموال والنهاية قبرٌ موحش، وولدٌ تالف، وحقوق أُكلت بالباطل؟ قال أحد الحكماء: الخبيثُ من الكسب يُسقط العدالة، ويذهبُ بالمروءة، ويوجب الحد، ويدخل النار وقام بعضهم بتأويل الدينار، فقال: الدينارُ يُدني إلى النار. ويقول الإمام الغزالي: الحرامُ ليس فقر اليد، بل فقر القلب، ومن افتقر قلبه، سرق وإن كان في ملك سليمان، لا ننكر بأن المال غيرُ مهم، بل هو زينةُ الدنيا الفانية، فما فائدة المكاثرة بالمال، والدهرُ آكله فتأمل رحمك الله، وردد: اللهمّ اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك.