لن أنساكما ما دمت فوق الأرض أحيا... عندما يعاني معظم الناس من الأزمة الأخلاقية ويتراجع لديهم الحس الإنساني، ويكثر الزيف، يرتفع لدينا نحن ذلك الحس، ونتجنب الزيف، ونبتعد عن التناقض، ونكون نحن أينما كنّا سواء في خلواتنا أو أمام الناس، والفضل يرجع لأم وأب كانت تربيتهما لنا تربية رشيدة، تربية توفر الأفكار والأساليب والأدوات التي تساعدنا ونحن في سن الطفولة على الاستعداد للعيش وفق مرضاة الله -سبحانه وتعالى- ومنهجه القويم، وكنّا على استعداد لخوض معارك الحياة بكفاءة واقتدار.
أتحدث عن نفسي وكنت أصغر طفلٍ في الأسرة، استقيت من والديّ ومن إخواني وأخواتي اللاتي يكبرنني ملخص تجاربهم وخبراتهم، وتعلمت من أمي وأبي أنه لابد أن تكون لي بصمة قوية في حياة أسرتنا الصغيرة، وعائلتنا الكبيرة، وفي المجتمع. كنت «مادة خام» شديدة السيولة، شكلوها وقولبوها، وأعادوا صياغتها بقيم ومبادئ وقناعات أسرية واجتماعية بامتياز.
علموني كيف أحترم وأقدر الكبير حتى وإن كان سيئ الخلق، وأحترم معلمي سواء كان معلمي في الحياة أو معلمتي في المدرسة حتى وإن قسوا عليّ، لقد اهتم والدي بعلاقات القرابة، ورسخ فيّ صلة الأرحام حتى وإن كانوا لا يستحقون التواصل. عاشوا في زماني بكفاءة واستقامة، واستفادوا من معارف وخبرات زماني، الحمدلله لم يكونوا أسرى للأساليب التربوية الموروثة، ولا التجارب التربوية الناجحة ذات الطابع الفردي، رغم تعليمهم المتوسط إلا أنهم كانوا يثقفون أنفسهم بالاعتماد على المصادر المعرفية البسيطة، وعلى خبراتهم وخبرة من سبقهم من الناس الموثوق بهم، حرصوا على الثقافة التربوية المشتملة على الأفكار والخبرات، التي تساعدهم على بناء شخصيتي على مستوى المعتقدات والتصورات والقيم والسلوكيات.
كل ما نطلبه يُوفر إلينا عاجلاً، كان والداي كريمين سخيين في الأمور المادية والمعنوية، لم يبخلا عليّ بشيء من حب واحترام وتقدير وأمان واستقرار وإنصاف، وألعاب وترفيه، كل ما أطلبه مجاب وإن كان في ليلة ظلماء، وكل ما تتم تلبيته يكون بتوسط وتوازن واعتدال من دون تفريط أو إفراط. تعلّمت منهما كيف أفرق بين الخطأ والصواب واللائق وغير اللائق، نتبادل الاحترام والثقة، وعندما كبرت واعتمدت على نفسي أصبحنا نلبي احتياجات بعضنا، رسّخا وعمّقا فيّ قيمة الإحسان وخدمة الآخرين، دائماً توصيني والدتي في الحضر والسفر بمساعدة الآخرين بحمل أمتعتهم عنهم، أو قضاء حاجتهم، أو جلب مصلحة لهم. في الحقيقة تربيتهم منهج نموذجي يدرس للأجيال المتعاقبة.
إن كان للبحر نهاية، وللسماء غاية، حينها ينتهي الحديث عن والديّ، سأظل أتحدث عن مناقبهما في كل دقيقة وساعة، وأكتب عنهما سبتمبر تلو الآخر ما حييت، لم ولن أوفيهما حقهما، ما صنعاه أكبر وأعظم من كل الأحرف والكلمات، «رب ارحمهما كما ربياني صغيراً»، واغفر لي كما بررت بهما كبيراً، ولا تحرمني أجرهما، واجبر كسر قلبي وخاطري بفقدهما، فقدت والدتي في «سبتمبر 2005»، وفقدت والدي في «سبتمبر 2010»، عليكما مني السلام، وأقول لكما: ما زلت على العهد باقية، ولن أنساكما ما دمت فوق الأرض أحيا.
M.alwohaib@gmail.com
@mona_alwohaib