منحت الولايات المتحدة لشركة «شيفرون» تفويضاً محدوداً لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد لاستئناف ضخ النفط من فنزويلا، كخطوةٍ مهمة بعد الإعلان عن قرار الإفراج عن ثلاثة مليارات دولار من أصل أكثر من 20 ملياراً من الأموال الفنزويلية المحتجَزة في مصارف ودول مختلفة.

ويُعتبر هذا القرار خطوة إيجابية ولكن خجولة تصبّ في المصلحة الأميركية بالدرجة الأولى والفنزويلية بالدرجة الثانية. إلا أن عدداً لا يُستهان به من المراقبين والمحللين يعتبرون أن خطوة واشنطن تنطوي على نيات أميركية بإبعاد فنزويلا عن روسيا والصين وإيران... فهل هذا ما تخطط له واشنطن وهل تحقيقه ممكن؟

قال مصدر رفيع المستوى في مركز القرار الفنزويلي مطلع على فحوى المفاوضات لـ «الراي»، إن «فنزويلا لم ولن تغيّر سياستها تجاه حلفائها وأصدقائها الذين وقفوا معها إبان فرض العقوبات الأميركية غير القانونية عليها»، مؤكداً أن «علاقتنا مع إيران وروسيا والصين والهند والبرازيل وكوبا وغيرها من الدول تبقى وتستمرّ سواء رُفعت جميع العقوبات الغربية أم بقيت. نحن لدينا مبادئنا ولا ننسى أصدقاءنا ولا الدولة التي حاولتْ قلْبَ نظامِنا الديموقراطي».

وقد أجرت كراكاس مفاوضات مع المعارضة الفنزويلية في المكسيك، أفضتْ إلى تَفاهُم حول تنظيم انتخابات عامة عام 2024، تبعه قرار الولايات المتحدة الإفراج عن ثلاثة مليارات دولار ستتولى إدارتها الأمم المتحدة بعدما أدرجت لائحة بالأولويات التي ستنفقها الحكومة الفنزويلية.

وأوضح المصدر أن الأولوية ستذهب إلى «تطوير مجالات التعليم والصحة والكهرباء ومكافحة الأمراض المزمنة والسرطانية وتطوير المستشفيات وتغطية نقص الدواء ومشاريع أخرى تتعلق بالبنى التحتية».

وكان مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية أصدر أخيراً الرخصة الفنزويلية العامة 41 التي تسمح لشركة شيفرون باستئناف عمليات استخراج النفط لمدة ستة أشهر.

وقد فتح مكتب المراقبة الأميركي أبوابه يوم السبت لإصدار الرخصة. إلا أنه يجب التوضيح أن «شيفرون» لا تملك إلا الجزء الصغير من حقوق استخراج النفط الذي تديره وتملك الجزء الأكبر منه شركة النفط والغاز الطبيعي الفنزويلي PDVSA المملوكة من الدولة.

وتالياً فإن للشركة الحق ببيع ما تستخرجه بالشراكة مع PDVSA وبيع النفط للمشتري الذي يقدّم السعر بما يتناسب مع الأسعار العالمية.

إنه الاقتصاد وعلى رأسه النفط. فالغرب اعتبر فنزويلا دولة ديكتاتورية منذ 2017. إلا أن هذا التصنيف وسلاح «حقوق الإنسان» سقطا من أجل النفط.

واختفى «المعارض - الرئيس» خوان غوايدو الذي لطالما تغنى به الغرب كـ «بديل - دمية» ليصبح رئيساً موالياً لأميركا بعد فشل الثورة الملوّنة في فنزويلا.

ومما لا شك فيه أن تسويق غوايدو كرئيسٍ فشل في تحقيق أهداف الولايات المتحدة التي حاولت خنْق اقتصاد فنزويلا ومصادرة أموالها المقدرة بـ20 مليار دولار من عائدات النفط والحديد والالمنيوم وحجْز الذهب الموجود في بريطانيا المقدَّر بقيمة متحركة تبلغ ملياري دولار، والذي مازال مُصادَراً من دون أي قرار دولي من الأمم المتحدة.

وأجرى الرئيس نيكولاس مادورو انتخابات برلمانية أظهرت للمراقبين الدوليين الذين حضروا إلى كراكاس نزاهة وشفافية هذه الانتخابات التي أصر الغرب على عدم الاعتراف بها لتقويض حكم مادورو وإخضاعه وإحضاره إلى «بيت الطاعة».

واصطدمت واشنطن بحائط مادورو الصلب الذي لم يتبع فقط خطى سلفه هوغو تشافيز، بل تَمَسَّك بمادئ «المحرر» سيمون بوليفار الذي حارب من أجل استقلال فنزويلا ودول أميركا اللاتينية من الاستعمار الإسباني.

وها هو الرئيس الفنزويلي يعبّر عن إخلاصه لحلفائه الذين وقفوا إلى جانب بلاده لتستطيع الصمود والتصدي للهيمنة الأميركية على موارد البلاد الطبيعية الغنية.

ويحكم مادورو شعبَه وفق مبادئ الثورة البوليفارية التي بنيت عليها «أرض النعمة» (كنية فنزويلا) كما سماها كريستوافر كولومبوس عندما رحل إليها عام 1498.

من الواضح أن موقف أميركا يُعَدّ تَراجُعاً مهماً من دون أن يؤدي ذلك إلى رفع العقوبات. وكذلك يُعتبر انتصاراً لسياسة الرئيس الفنزويلي الذي يفسح المجال للديبلوماسية، تماماً كما فعل عندما صافح من دون تردد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي يفرض العقوبات على كراكاس في وقتٍ يحتاج الغرب للنفط الفنزويلي.

عودة «شيفرون» ستغطي نحو 200 ألف برميل يومياً من احتياجات أميركا. ويُعتبر ذلك جزءاً بسيطاً من قدرة فنزويلا النفطية والتي، على الرغم من العقوبات، استطاعت أن تصدّر نحو مليون برميل يومياً، كما تقول لـ «الراي» مصادر ديبلوماسية فنزويلية موثوقة.

لقد تصرف الغرب بجزء من أموال فنزويلا ليعطيها للمعارضة التي خسرت قضيتها لاتباعها السياسية الأميركية لتغيير النظام.

لكن كراكاس لن تفاوض على المبالغ التابعة للدولة التي أنفقها الغرب بطرق غير قانونية، وتريدها كاملة.

ولن تبيع أصدقاءها مقابل عودة شركات تخدم مصلحة أميركا في مواجهة سلاح النفط الروسي وسعيها لإيجاد البديل عنه، أو جزء منه لأن واشنطن تحتاج إلى 700.000 برميل يومياً كانت تشتريها من موسكو وتأمل من فنزويلا والعراق التعويض عن النقص. وما فعلته واشنطن ينمّ عن عجزها في إقناع دول «أوبك+» بالعودة عن قرارها بخفض الإنتاج مليوني برميل يومياً.

لقد انتصر مادورو الذي يعتمد على كوبا وروسيا وإيران والصين للحفاظ على اقتصاد البلاد وإبقاء عجلته مستمرة. وها هي أميركا اللاتينية تنزح وتبتعد عن الهيمنة الأميركية تدريجياً وتسير على نفس خطى فنزويلا وكوبا (مثل المكسيك وكولومبيا السلفادور وهندوراس والبرازيل).

أصبح تحدي الهيمنة الأميركية مُعْدياً، ولا يقتصر على دول شرق أوسطية، أو إيران وروسيا والصين فقط، بل أصبح أيضاً يصيب حديقة أميركا الخلفية ليُظْهِر عجزها عن الفوز بقلوب الشعوب حتى التي تشاركها القارة عيْنها.