يقول ديبلوماسي أميركي مخضرم، كان ممن شاركوا في «هندسة» إنهاء الحرب الأهلية في لبنان وتسليم حكم البلاد إلى وصاية الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، أن واشنطن وافقت على غض النظر عن بقاء الجيش السوري في لبنان واكتساحه «الجيب المسيحي» في المنطقة الشرقية من بيروت، مقابل مطلبين: الأول حل كل الميليشيات المسلحة التي شاركت في الحرب الأهلية، والثاني قضاء دمشق على «اقتصاد المخدرات» الذي نشأ على مدى 15 عاماً من الحرب اللبنانية، خصوصاً في سهل البقاع الخصيب، شرق البلاد.

ويتابع الديبلوماسي، أن «الأسد التزم وعوده، فقضى على شبكات المخدرات وزراعة الحشيشة في لبنان، وحلّ كل الميليشيات باستثناء واحدة - هي حزب الله الموالي لإيران - وربط بقاءه بالتوصل لسلام عربي - إسرائيلي، في وقت كان السلام يبدو ممكناً وحل الحزب المذكور يبدو غير بعيد».

لم يأتِ السلام ولم يتم حل «حزب الله». لكن موت الأسد وتولي ابنه بشار الحكم بعده، أضعف نظامه. فلم تكد تمر خمس سنوات حتى وجد الأسد الابن نفسه مجبراً على سحب قواته من لبنان، ولم تكد تمر ست سنوات بعد ذلك حتى وجد نفسه في مواجهة ثورة شعبية، حاول قمعها عسكرياً، فغرقت البلاد في حرب أهلية لم تخرج منها حتى اليوم.

وفي علم الاقتصاد، أن الحروب الأهلية تؤدي إلى دمار اقتصادات الدول التي تدور هذه الحروب على أراضيها. لكن الحروب الأهلية تؤدي في الوقت نفسه إلى قيام ما يسميه الخبراء «اقتصاد الباب الخلفي»، أي اقتصاد مبني على سائر أنواع النشاطات المحرمة قانونياً، محلياً ودولياً، مثل عمليات الجريمة المنظمة، والخطف مقابل فدية، وتجارة السلاح، وزراعة وتجارة المخدرات.

وحسب تقرير صادر عن «مركز التحليل العملي والأبحاث»، تمثل الحروب الأهلية الحاضنة الأفضل لنشوء ونمو اقتصادات المخدرات والشبكات المرتبطة بها. في الحالة السورية، يرى التقرير أن «من المستحيل رسم صورة لصعود دولة المخدرات السورية من دون تحديد جذورها مع بدء إنتاج عقار الكبتاغون في سورية، كنتيجة غير مباشرة للتشدد في تطبيق قوانين المخدرات في أوروبا، خصوصاً بلغاريا، في أوائل العقد الماضي».

ويضيف التقرير: «أدى القضاء على تصنيع الكبتاغون في أوروبا إلى دفع الإنتاج إلى الدول الهشة بالقرب من الأسواق الاستهلاكية، مثل لبنان، حيث ضعف الدولة المركزية سمح بصناعة العقار».

ووفق ما ورد في التقرير، فإن القوات الإيرانية «رعت بدء الصناعة اللبنانية من خلال تزويد حلفائها المحليين بمعدات الأدوية الاصطناعية في أعقاب حرب يوليو 2006، وفي 2007 تم اكتشاف أول مختبر تم الإبلاغ عنه رسمياً إلى مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة».

أما سورية، فلم تبلغ عن اكتشاف معمل «كبتاغون» واحد حتى أواخر 2011، رغم اعتراف الحكومة بـ الطلب الكبير على المخدر محلياً، وتضاعف المضبوطات بين عامي 2008 و2009.

وبحسب التقرير، فإن معظم شبكات الاتجار بالمخدرات وتصديرها في سورية تخضع لسيطرة الحكومة منذ 2018، أو قبل ذلك بكثير، وقد تكون السيطرة على طرق التهريب، مثل ريف حمص الغربي وجبال القلمون، لعبت دور المحفز الأكبر لجهود استعادة هذه المناطق من قبل قوات النظام و«حزب الله»، الذي يحتفظ بوجود كبير في المواقع الحدودية، حيث يمكنه أن يوفر الاستقرار الاقتصادي والحماية لمنتجي المخدرات.

وعلى إثر قيام السعودية بضبط شحنة من «الكبتاغون» قادمة من لبنان، أعلنت بيروت اعتقال حسن دقو، وهو أحد مواطني المناطق الحدودية. وتظهر صور وفيديوات انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، «ملك الكبتاغون» مع نواب ومسؤولين في «حزب الله».

وبسبب انتشار تجارة المخدرات في سورية ولبنان، تعتقد واشنطن والعواصم الحليفة، أن لا خيار بديلا عن دعم السلطات الشرعية المحلية لمكافحة هذه التجارة المحرّمة دولياً.

ويشير الخبراء في واشنطن، إلى أن موازنة القوات الأمنية اللبنانية السنوية، قبل بدء انهيار العملة المحلية صيف 2019، كانت تبلغ أكثر من ملياري دولار وتمول عمل أكثر من 80 ألفاً من أفراد الجيش والأمن العام والدرك والجمارك وأمن الدولة. أما اليوم، ومع خسارة العملة لقرابة 90 في المئة من قيمتها، أصبحت فعالية عمل القوات الأمنية مهددة، وهو ما دفع الولايات المتحدة الى التشاور مع حلفائها، وقامت بعد ذلك باريس بالدعوة لمؤتمر دولي للتعهد بتقديم سيولة مالية، على شكل عملة صعبة، لتمويل رواتب القوات الأمنية، لمنع تحول لبنان الى بؤرة ثانية لتجارة المخدرات، تجاور البؤرة السورية.

لكن المصادر الأميركية تقول إن مبلغ ملياري دولار سنوياً هو مبلغ كبير بالنسبة للمانحين، ويتم في الوقت الحالي تدارس تقديم مساعدات مالية للجيش وبعض القوى الأمنية تغطي تكاليف مرتبات هذه القوات فقط، وبالعملة الصعبة، من دون أن تغطي باقي مصاريف هذه القوات، مثل الصيانة والأمور اللوجستية الأخرى.

أما سورية، فمكافحة المخدرات المتدفقة منها أمر أكثر صعوبة وتعقيداً. ويؤكد المسؤولون الأميركيون لأنه بسبب التعقيدات السياسية، ستكتفي العواصم الغربية بمحاولة إدارة الأزمة والحد من تأثيراتها، مع الأخذ بالاعتبار أن أي حل جذري يرتبط بحل جذري مشابه للأزمة المندلعة في البلاد منذ عقد من الزمن.