كلمة «مثمرة» التي أطلقها الموفد الروسي إلى محادثات فيينا النووية، ميخائيل أوليانوف، كادت تختصر مجريات اليوم الأول للديبلوماسية غير المباشرة التي قادها الأوروبيون وروسيا والصين بين الولايات المتحدة وإيران في العاصمة النمسوية.

وفي واشنطن، كرر الناطق باسم وزارة الخارجية وصف المحادثات بـ «المثمرة»، لكنه قدم - ربما عن غير قصد - التوجه الأميركي الجديد لإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، بتكراره أن «العودة إلى الاتفاق ستقوم بها أميركا وكذلك إيران» في تصريح يشي بأن الديبلوماسية في فيينا عكفت على التوصل إلى مخرج يحفظ ماء وجه كل من واشنطن وطهران، من دون أن يظهر أن أي منهما قدّم تنازلات للآخر.

مصادر أميركية مطلعة أكّدت لـ «الراي» أن «الحديث عن التزامن في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران كان سيّد المفاوضات في العاصمة النمسوية».

وقال المصدر الأميركي إن «التزامن» هو آخر ابتكار ديبلوماسي بعدما فشلت الابتكارات السابقة، مثل «العودة التدريجية» من قبل الطرفين، والتي رفضتها إيران علناً، وكذلك رفضت اقتراحات «بناء الثقة» التي عرضتها أميركا.

وعلى مدى الأسابيع الماضية، دأب المبعوث الأميركي حول إيران، روبرت مالي، على تقديم تنازلات أميركية لطهران، بعيداً عن الأضواء، هدفها خطب ود الإيرانيين ودفعهم للعودة إلى الاتفاق. وتضمنت بوادر حسن النية التي قدمها الديبلوماسي الأميركي إفراج أميركا عن مليار دولار إيرانية كانت مجمدة في كوريا الجنوبية، و4 ملايين دولار كانت مجمدة في العراق. كذلك قامت وزارة الخارجية بتعديل نص عن حقوق الإنسان كانت تلوم فيه نظام إيران على قيامه بقتل 1500 متظاهر في نوفمبر 2019، واستبدلت رقم الضحايا بـ 354، نقلاً عن تقرير «منظمة العفو العالمية»، وهي خطوة لاقت امتعاضاً واسعاً في الأوساط الأميركية.

لكن رغم كل محاولاته، الإعلامية منها كما البعيدة عن الأضواء، واصلت طهران تمسكها بالقول إنها لن تعود إلى الاتفاق النووي، ولن تخفّض نسب وكمية اليورانيوم المخصب لديها، ما لم تقم واشنطن أولاً برفع العقوبات التي أعادها الرئيس السابق دونالد ترامب إبان إعلان انسحابه من الاتفاق في مايو 2018. أما الرئيس جو بايدن، فسبق له أن أعلن أنه لا يمكن لواشنطن أن ترفع العقوبات عن حكومة إيرانية لا تلتزم اتفاقية دولية، حسب تقارير وكالة الطاقة الذرية، وأن عود إيران للالتزام ستعيد أميركا تلقائياً للالتزام من ناحيتها ورفعها عقوبات ترامب.

أمام الحائط المسدود، نجحت مفاوضات فيينا في التمسك بحل يبدو وكأنه حبل الانقاذ الوحيد المتبقي، وهو حل يقضي بعودة كل من أميركا وإيران إلى الالتزام ببنود الاتفاق النووي في الوقت نفسه، من دون أن يقوم أي منهما بذلك قبل الآخر.

على أن الحل يبدو أسهل قولاً منه فعلاً، إذ إن عودة إيران للالتزام تتطلب قيامها بتخفيض نسب اليورانيوم المخصب لديها، وكذلك شحنها الفائض من الكمية المخصبة، بحسب ما ينص عليه الاتفاق النووي، وهو أمر يتطلب أسابيع على أقل تقدير، إن لم يتطلب أشهراً. أما رفع العقوبات التي فرضها ترامب على إيران، فلا يتطلب أكثر من مرسوم تنفيذي يصدره بايدن، ويرفقه ببلاغ إلى الكونغرس حول الخطوة التي يزمع القيام بها.

صعوبة عودة إيران للاتفاق وسهولة عودة واشنطن جعلت من توقيت عودة متزامنة أمراً معقّداً. لكن المصادر الأميركية قالت إن من الاقتراحات التي تداولها المجتمعون في فيينا هي «تزامن في الإعلان عن بدء العودة إلى الاتفاق في العاصمتين»، ثم «تزامن في الإعلان أن العودة تمت يوم تنجز إيران عودتها ويرفع بايدن العقوبات في الوقت ذاته مع الإعلان الإيراني».

وأضافت المصادر أنه على عكس مفاوضات 2015، التي تطلبت محادثات تقنية معقدة وتنازلات كبيرة من الطرفين، جلّ ما تتطلبه المفاوضات الحالية هو التنسيق للقيام «بخطوات مخصصة للاستهلاك الإعلامي والشعبي»، أي أن فحوى الاتفاق معروف، وكل المطلوب هو العودة إليه «بشكل يرضي كل الأطراف ويسمح لهم بالتباهي أمام قواعدهم الشعبية بتحقيق إنجاز عن طريق العودة».

ولأن الاتفاق معروف والمفاوضات تتمحور حول الشكليات، لم يكن مطلوباً أكثر من لقاء مسؤولي الصف الثاني للتوصل إلى إعلان أن «المفاوضات كانت مثمرة» بشكل دفع المتفاوضين إلى عقد جولة ثانية أمس.

لكن المصادر الأميركية حذرت من نجاح معارضي الاتفاق النووي بعرقلة العودة إليه، ويجمع الخبراء المعنيون بالشأن الإيراني أن المرشد علي خامنئي نفسه يعارض الاتفاق، ويعتقد أن بديلاً أفضل عن الاتفاق هو توصل إيران لاكتفاء اقتصادي ذاتي، يسميه خامنئي «اقتصاد المقاومة»، ويقوم على إقامة سوقاً مشتركة ومنطقة اقتصادية فيها إيران والدول الحليفة والمجاورة، مثل أفغانستان والعراق وتركيا وسورية ولبنان وبعض دول آسيا الوسطى، فضلاً عن الصين، التي وقعّت إيران معها اتفاقية شراكة اقتصادية لمدة 25 عاماً، الأسبوع الماضي.

كذلك، يبدو أن خامنئي يعتقد أن أوروبا ما تزال في الاتفاق النووي، وهو ما يعني أنه يمكن لإيران أن تتعامل معه، بغض النظر عن العقوبات الأميركية، ما يعني أنه يمكن لإيران العودة للاقتصاد العالمي رغماً عن العقوبات الأميركية، ما يجعل إيران منيعة على العقوبات، اليوم أو مستقبلاً في حال عودة صقور الخارجية الأميركية والجمهوريين إلى الحكم في واشنطن.

ما هي الخطوة التالية للديبلوماسية النووية مع إيران؟ تقول المصادر الأميركية إن عواصم العالم ترى بوضوح أن واشنطن مستعدة تماماً للعودة للاتفاق وأن إيران هي التي ترمي العراقيل، وهو ما يرفع من الضغط الدولي على الإيرانيين ويدفعهم إلى محاولة التمسك بأي حلول مبتكرة، على طراز «التزامن» الذي تداوله الديبلوماسيون في فيينا، والذي أجمعوا على وصفه بـ«المثمر».