في هذا الزمن المتسارع بخطواته التي أظنها مدروسة، ونحن نحاول اللحاق بجريها بغير دراسة، يتعرّض الإنسان إلى أزمات ومشكلات نفسية وأُسرية واجتماعية ومادية، فيهرب من واقعه المؤلم إلى عالمه الوهمي المخدِّر، بدلاً من مواجهة الواقع واتخاذ قرار ودراسة الحال، والتفكير في حلٍّ يكون جذرياً أو موقتاً مدروساً لحين إيجاد الحل الجذري أو اتضاح الرؤية.

وخلال هذا الهروب، يرتمي في حضن صانعي المحتوى الفارغون من المحتوى، الذين يُجملون الظاهر بإيماءات وكلمات وجمل، مع بعض التلاعب بالصوت لدغدغة مشاعر المشاهد، دون إيجاد حل، غير إيهام الموهوم أنه على حق، وإن كان على حق فعلاً، وتغييبِه عن الواقع بكلمات وأساليب تُخدِّره ومشاهد قصيرة لا يمل من مشاهدتها وسماعها.

مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، أُتيحت الفرصة لشخصيات تجيد التظاهر كالخيال أو تدربت عليه، وتحسن التواجد لا الوجود، وتصطاد كل شاردٍ من الواقع المؤلم بطبيعة الحال، والحياة التي لا تخلو. فعندما يتعرّض الفرد إلى أي مشكلة، فبدلاً من إعمال العقل بالتفكير وإعطاء المشاعر حاصلها للتفاعل مع الحال المناسب لما حل بالفرد، تجده يهرب من نفسه وذاته وعقله وتفكيره، هروب الخائف من تفكيره وعقله إلى وسائل التواصل الاجتماعي، هارباً من ذاته لمن يوهمه بمساعدته بالبحث عنها. ومع أول طُعمٍ يُجمِّل له الكلام ويُحسن له التقديم، فيُسلِّم العقل والقلب والروح وجميع وسائل الإدراك الحسية والمعنوية، ليحرِّكه المسمي نفسه صانع محتوى، ويلعب بمشاعره ويملي على عقله الفارغ ما يريده، وما المتلقي بأفرغ من المُلقي، ولا أملأ من المُملي.

عندما كنت صغيراً، كنت أحفظ حديثاً نبوياً يقول فيه رسول الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم،:

(إنّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلمَ بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناسُ رؤساً جهّالاً فسئلوا فأفتوا بغيرِ عِلمٍ فضلّوا وأضلوا).

كثيراً ممن يسمون أنفسهم صناع محتوى، ويتحدثون بقضايا نفسية واجتماعية وتربوية وزوجية ومالية، مع تفخيم طبقة الصوت؛ كلامٌ يُقال لإثارة الفارغين العاجزين عن البحث الحقيقي في ما يعانونه من مشكلات، مسنداً كلامه وحديثه ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ليس لوجودها في سياق حديثه أي دليل عقلي أو ارتباط شرطي أو تشابه حال. ولو أطلق الموهوم القليل من التفكير، لعرف أن ما يتلقاه لا يغيّر واقعاً، ولا يداوي ألماً، ولا يحل قضية، وما مشاهدته إلا زيادة في الضياع، ولكن عن رضاً منه.

مع وجود صانعي الوهم، الموهومين بأنفسهم أولاً، والمتوهمين بالنجاح ثانياً، والبائعين لوهمهم ثالثاً لوجود من يشتري في سوق التواصل الاجتماعي، لن يكون هناك تغير في حال المتسلي بحديثهم، غير ضياع الحقيقة والسير خلف خطى الضائع الذي يظن نفسه ناجياً، بل ويمد يده لينجي غيره بلا دليل ولا معرفة ولا فهم.

أعتقد أن ما يحصل في وسائل التواصل الاجتماعي ينقص قيمتنا الإنسانية في التمييز بين الرديء والجيد من الأفكار والمفاهيم والقيم، لمجرد ظهور من يحسن العرض رغم فراغ المحتوى عقلاً وقلباً وروحاً. فأسرع ما يملكه الفارغ من المحتوى أن يقدم القليل من الكلام المنمق، بدلاً من أن يدرس بحثاً في الأثر وبُعد ما ينطق به. والأسرع والأهون علينا أن نستمع لما نريده، وإن لم يوافق هوانا انتقلنا للذي بعده، إلى أن نجد هوانا، فيكون الموافق لهوانا موافقاً للحقيقة، وهو المصدق في القول دون تحقق أو بحث.