يعيش الإنسان حياته اللامثالية متطلعاً إلى المثالية، أو باحثاً عنها، أو تعيساً بصعوبة الوصول إليها. لا يدرك بعقلٍ أو قلبٍ أن المطلوب منه ليس المثالية، بل الرضا بالقصور وعدم الكمال ذاتهما.
يصارع الإنسان نفسه في حربٍ شعواء، نهايتها الكآبة والهمّ والغمّ والحزن، لعدم استطاعته الوصول إلى تطلعاته اللامنطقية، مدّعياً المنطقية، جاعلاً إيّاها مراده للوصول إلى غاياته اللامتناهية. فيحاول خداع نفسه باختيار صداقاتٍ أقلّ منه موهبة، أو أكثر منه خيبة، أو بصناعة شماعاتٍ مجتمعية من القيود والعادات والروتين والمسؤوليات الحياتية والزوجية، لتبرير الخيبة. أو قد يلجأ إلى المجتمع الوهمي اللامثالي في عالم وسائل التواصل الاجتماعي الوهمي، لينظر إلى مدّعي الإنجاز، وبشيءٍ من الحسد الخفي، وبحثاً في المقارنات المؤدية إلى ما يراه، فيرتطم بالخذلان ويوقظه الواقع. فيغلق الهاتف ويلعن الواقع، وتثور في داخله براكين إرادة التمرّد على الحياة، فيلجأ إلى الدوران حول رحى الخيبة والخذلان والفشل.
الظاهرة الاجتماعية قد لا يُجبر عليها الإنسان بقدر ما تُساق لها القِلّة، لتجدها الكثرة طريقاً لهم دون تفكيرٍ في ما إذا كان هذا الطريق يصلح لهم أم لا. وفي هذا قد تكون الظاهرة صالحة أو فاسدة أو مضرّة، لا يهمّ، بقدر ما تُتَّبع ثورة داخلية وقنبلة موقوتة تم ضبطها خفيةً وهماً، لتنفجر حقيقةً في العلن بادعاءات عقلانية.
قد لا يعرف الإنسان من أشكال الكذب إلا تغيير الحقيقة قولاً، أو قول ما لم يحدث على أنه قد حدث. بينما مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، قد يكذب الإنسان بادعاء ما ليس فيه، والتخلّق والاتصاف بما ليس من صفاته، أو التفاعل شعورياً بما لا يحرّك مشاعره. وقد يظهر بصورةٍ مفبركة أو محسّنة ليكون على صورةٍ تُضاهى بالتفاعل المُلقى، فترضى نفسه الأمّارة بالسوء ليكون كما يريد، دون إصلاح واقعه الخَرِب. ما يجعل المشاهدين والمتفاعلين يظنّونه كما رأوه، وعند الاقتراب ينخدع فيه الفارغون، وقد يدرك العقلاء أنه لا كمال لبشر إلا بالنقصان، فيقبلونه على نقصه، ويقتربون منه تصالحاً ورضاً به وبعيبه. لكنه لا يرضى لنفسه القبول من الآخرين بالكمال والنقص، بل يبحث عن نفسه الكاذبة كما أراد لها، وكما أعلنها، وكما زُيّنت له وتزين لها. فيُبعد الصادقون عن دائرته ليبحث عمّن غُشيت أبصارهم وراء الشاشات، ظنّاً منه بقبولهم له بما فيه، فيلتم المنحوس على خائب الرجاء، فلو علموا منه نقصاً ما أطاقوه، ولو علم هو أنهم التفّوا عليه من فراغهم لما قبلهم.
ملأت وسائل التواصل الاجتماعي حياتنا وهماً وكذباً اصطنعناه وألبسناه ونصّبناه في منصب الحقيقة والواقع، فكبر حجمه وتحكّم بنا كما أردنا له ورضينا بذلك. وألجمنا عقولنا الناقدة، وأرواحنا الطاهرة، وقلوبنا النقية بلجام الغفلة، وتدثّرنا بالهموم والكآبة والخيبة. ورضينا بأي قولٍ يدغدغ عواطفنا، ويحرّك مشاعرنا، ويوهم عقولنا. فدغدغنا مشاعر الآخرين، وحرّكنا عواطفهم، وأوهمناهم بما نريد أو نتمنى أن نكون. أو لعلّنا جرّبنا ما يثير التفاعل والإعجاب، فرضينا أن نكونه دون الارتطام بواقع أن ذلك كذب، قد يتجاوز بضرره كذب القول، متّبعين بوسائل التواصل الاجتماعي سنن من كان قبلنا شبراً بشبر، وذراعاً بذراع.
الواعي هو من يعطي نفسه لحظاتٍ من الصمت ليسمع صوته الداخلي المتجرّد من المتابعين والفارغين في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن أهواء نفسه المنتظرة لتقييمهم وإعجاباتهم، ليعرف من يكون وما دوره في الحياة. ويتعامل مع ضوابط الحياة ومسؤولياتها بذكاءٍ وإدارةٍ لواقعه، راضياً كلّ الرضا، مسلّماً تمام التسليم بعيوبه، ساعياً إلى إصلاحها، وإن لم تُصلَح. فكماله يكمن في عين نقصه، مدركاً أن أول واجباته في الحياة ليس الوصول إلى الكمال، وأن الطريق إليه هو الرضا بالنقص ومجاهدته، لا محو العيوب كلياً، تلك التي زيّنها لنا العالم الافتراضي، فأصبحت عيوبنا قيوداً لعقولنا عن معرفتها، وقلوبنا عن الرضا بها، فتثقل أرواحنا عن إدراك عالم الكمال بالرضا بعين النقص.