عند حضور مسرح الدمى، تُجسِّد عرائس الماريونيت أدواراً فكاهية أو أحداثاً تراجيدية تتأرجح بين الهزل والجدّ، وتتخللها كلماتٌ مضحكةٌ وأصواتٌ طريفة، تُوصل من خلالها الرسائلُ المراد إيصالها من «المشغِّل» أو عارض الدمى. والأمر، بشكل أوضح، هو أن يُبرز العارض قوته في السيطرة على الدمى التي يحرّكها بكلتا يديه في آنٍ واحد، مُجسِّداً شخصيتين مختلفتين، لكلٍّ منهما دورٌ وصوتٌ وحركاتٌ وتعابير مختلفة، بينما العارض المتحكم واحد؛ أي أن العقل المدبِّر واحد. وهنا تكمُن البطولة الخفية من خلف الستار.

العارض، من خلال تحكمه بالدمى، يجد في نفسه أمرين:

أولاً: أنه استخدم الدمى لإيصال ما يريد إيصاله؛ أو أنه — في حال انتفاء الرسالة — يجعل منها مجرد وسيلة تسلية للمشاهد، وباب رزقٍ للعارض الذي وجد في التحكم بالدمى وسيلةً لجذب المارة، وكلما أثار الانتباه حصد مشاهدين أكثر، ثم مالاً أكثر، بلا تفكير في نية هذا المال أو في كون الرسائل التي يقدمها بنّاءة أم هدّامة.

وثانياً: أنّ الدور الذي لا يُحسن تمثيله بالدمى، لا يجرؤ على الخوض فيه، لأنه لن يستطيع التحكم بما لا يقدر عليه، ولأنه يصمّم الدمى أصلاً وفق ما يتناسب مع مراده من العرض، وذلك دون أدنى مقاومة من الدمى بطبيعة الحال؛ إذ تتميّز بخفتها وبُعدها عن الواقع، وارتباطها بالمتحكم في معظم أجزائها، والأهم: أنها بلا عقلٍ يفكر ولا قلبٍ يُبصر، فالفراغ الداخلي أهمّ صفاتها.

الإنسان في مسرح الحياة ليس مسلوب الإرادة تماماً كالدمى، ولكنه محكومٌ بأمور كثيرة قد تكون صحيحة أو خاطئة؛ منها العرفي والاجتماعي والمادي، ما يجعل جزءاً منه أو نصفه أو كله مسلوباً للـ«عارض» الذي تُفرض عليه روابطه دون تفكير ولا اختيار ولا نقاش. وفي المقابل، ليس مطلوباً من الإنسان أن يُخضع كلّ حياته للنقاش والتحليل والتفكير والتعامل بالوعي الكامل.

يتميّز الإنسان بالحرية والمسؤولية اللتين يترتب عليهما الاختيار، وينتج عنهما الالتزام — ولو جزئياً — بما اختاره. وليس الالتزام الكامل دليلاً على الصحة دائماً؛ فبعض الالتزام أشبه بدمية في مسرح الحياة تتحكم بها خيوط المجتمع، وأفكاره، وتصرفاته. وفي المقابل، فإن إدراك هذا النقيض بحد ذاته حِملٌ يثقُل كاهلَ الواعين بما يدور حولهم؛ إذ يرضخون للضغط الخارجي لتلبية ما لا يريدون، ويكابدون الألم الداخلي لما لا يرضون عنه.

أعتقد أن الإنسان، إذا أدرك وعيه، استطاع أن يشعر بتسلل يد العارض إلى داخله عبر ما يتلقاه برضا وقبول وتسليم، تاركاً مفتاح جوارحه ـ الموصلة إلى قلبه النقي ـ بيد غيره، مما يُملى عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصداقات المؤثرة على التفكير. فالقلب يصبح أجوفَ، كدميةٍ سهلةٍ للعارض الذي يريد من خلال هذا الإنسان أداءَ دورٍ يختاره له، ثم ما إن ينتهي منه حتى يرميه، تاركاً إياه في خوائه؛ لأنه اعتاد أن يكون مجرد دميةٍ تُحرِّكها يد غيره فرِحةً بنظرات المعجبين إليه. ثم ينتقل العارض لاختيار دميةٍ أخرى تؤدي الدور المطلوب في أمواج الأحداث المتلاطمة.

كما أن الإنسان — بإدراكه الكلي أو الجزئي للحال العام — يستطيع مجاهدة ما يُملى عليه ليعيش الواقع دون الشعور بالعجز، وبإدراكه الدقيق لوجود العقل الذي يساير به الدنيا، وتمييزه حدوده، يدرك تحكمها فيه، ويجاهد داخلياً لرفض الأوهام التي تسيّر رغباته وتصرفاته واختياراته، والتي قد لا يكون له دور فيها أصلاً. فيصبح — إن سلّم — مسلوب الإرادة؛ لا أعماله له، ولا يؤدي دوره في الحياة، ولا يملك جوارحه ولا قواه، وقلبه محجوب عن إنسانيته الحقة وعبوديته الحرة، والعقل عاجز عن السيطرة، والأسوأ أن يزيّن له عقله حاله. ولا يكون أمام الروح إلا مسرح الدمى لتحلّق فيه تمثيلاً، لعلّه يكون درساً يتعظ به المشاهد — على الأقل.