طالما سألت وتساءلت عن الوهم والحقيقة، قبل ما يزيد على عقد من الزمن تقريباً. كنا إذا رأينا خبراً يذاع على شاشات التلفاز ولم يَرُق الخبر لذائقتنا أو لا نريد تصديقه، قلنا عنه هذا كذب إعلام أو خبر مفبرك، ومع ذلك نشاهد القنوات نفسها والمنصات الإخبارية، لربما بسبب قلتها أو لقضاء الوقت أو ادعاء مواكبة الأحداث، ولكننا كنا على درجة أعلى من النقد بحيث نصدق ما نريد ونكذب ما نريد أو ممكن كنا نتعامل بمزاجية أكبر.

فكلمة نقد أبلغ وأعمق وأظنها كبيرة علينا بعض الشيء. أما الآن فأصبحت الجوالات هي الوسيلة التي اتخذها الفرد مصدراً واعتبره موثوقاً للمعلومات وتلقيه الأخبار ووسيلة أُنسِه وسلواه وخلوته وتواصله الوهمي، فلكل منا مشاهيره وصانعو محتواه ومنصاته الإخبارية التي يتابعها مصدقاً بعضها ومكذباً أخرى وله مدربونه الشخصيون الذين يحثونه على استعمال العقل ليسلم لهم عقله فيخلطون سم جهلهم وإفكهم بعسل كسله وسذاجة تلقيه ليشربه ويتسمم فكرياً، مغتراً مبهوراً بما يجيدون من مهارات العرض والتقديم والكلمات الرنانة التي تخفي خلف زيفها حقيقة الوهم الهشة.

مع بداية انتشار استعمالنا لوسائل التواصل الاجتماعي كنا ندرك أن الكثير من المنشورات هي وهمٌ من معروضات وصور وأخبار ومعلومات قد لا تمثل واقع حال الناشر عند نشره، فمثلاً تشاهد شخصاً يعبر لك عن فرحه وسعادته بلقطةٍ يصنعها للحظة مع بعض المؤثرات الصوتية أو صورة تدعو للتأمل، بينما واقع الحال قد يكون الناشر يبحث عن الاهتمام أو لفت الانتباه أو التشجيع أو بث الشكوى بتعليقٍ مكتوب أسفل الصورة أو إثارة إعجاب المعجبين والمعجبات والباحثين والباحثات من المتفرغين والمتفرغات، أو قد يكون تسجيل حضور في عالم الوهم الافتراضي الذي لا يمت لحاله حين إرساله الصورة أو التقاطها بصلة للواقع، وكل تلك الأسباب من وراء النشر وهمية لا حقيقية، والأدهى أن المشاهد أصبح مجرداً من أدوات القياس التي قاس عليها وسائل الإعلام سابقاً سواء أدوات منطقية أو مزاجية فلم يعد يقبل كذب وسائل التواصل، أو خبراً مفبركاً ويقارن ما عُرض عليه مع مصادر موثوقة ليميز الخبيث من الطيب، بل أصبح يريد تصديق ما يرى باقتناع وانشراح خاطر وقضاء وقتٍ ممتع ولعله اعتبرها من محسنات المزاج، وعلى مستوى متدنٍ من الوعي مستسلماً للوهمية المعلوماتية بشتى أشكالها ومحتوياتها ومؤثراتها.

إن الحقيقة وإن كانت لا تعجب الباحث عنها أحياناً في النتيجة التي قد لا توافق هواه أو لصعوبة الحصول عليها، فإن رحلة البحث عنها بحد ذاتها لها متعة الواقعية بعيداً عن المعلومة ذاتها، والواقع هو في المعرفة ذاتها وامتلاك أدوات التميز والبحث والقياس. كذلك فما يعرض وما يباع على أنه حاجة لك هو وهمٌ لا واقع، فالمستهلك هو من يحدد الحاجة للمنتج المعروض أو أهمية ما يعرض سواء كان منتجاً أو معلومةً، لا ما يملى عليك بأسلوب تسويق بأنك تحتاج هذا المنتج، أو يقال «وداعاً للتعب مع المنتج الجديد»، «أو ما لا تعرفه عن كذا». والأمَرّ والأدهى التأثير بالمشاعر، والعقل هو ما يوهم أنه سعادة وفرح قد لا يكون إلا تعاسةً وكآبة وخيبة مسعى و«حشفاً وسوء كيلة».

أعتقد أن الوهم أصبح له نصيب الأسد من حياتنا اليومية الذي صدقناه وسلمناه عقولنا ليملي عليها ما يراد، ومشاعرنا لتستشعر ما لا يستشعر، وأرواحنا لتقيّد في عالمٍ من الخيال غير المطلق، وأحجبة لقلوبنا عن الحقيقة المطلقة، فيسري الوهم بعاداتنا وسلوكياتنا ومفهومنا، مُبعدين بذلك عن غاية وجودنا ومهامنا الحقيقية في عالم الوجود الحقيقي لا الوهم المزيّف.