التجارب التي عشتها أثناء دراستي في الولايات المتحدّة الأميركية أثرت كثيراً على طريقة تفكيري وتعاملي مع وقائع التقصير والتخبّط والفساد. نقلتني من مقاعد المتذمّرين المشتكين إلى مقاعد المُحلِّلين المنتقدين. عوضاً عن توجيه جل طاقاتي نحو كشف وفضح الأخطاء والعيوب، أصبحت أوفّر نصيباً منها لصالح التشخيص والتحليل والتقويم، ونصيباً آخر منها لمعرفة مسؤوليتي عن هذه الوقائع المعيبة وتكليفي تجاه مساعي تخفيف وإزالة أضرارها وتفادي ومنع تكرارها.

تغيرت الصورة الجميلة لأميركا التي كانت مرسومة في مخيلتي، بعد أن شاهدت بنفسي للمرّة الأولى مُشرّدين على جوانب الطرق، لأنها كانت مشاهدة مختلفة تماماً عن تلك التي مازلت أشاهدها في الأفلام الأميركية. لأنها كانت مشاهدة حيّة بثّت الرعب في نفسي، وزرعت الخوف في قلبي من أن ينتهي مصيري أو مصير أحد أولادي وأحفادي إلى ما انتهى إليه هؤلاء المشرّدون.

تغيّرت الصورة بعد أن سأل البروفيسور - الأميركي من أصول شرق آسيوية - الطلبة عن سبب الغياب المتوالي لأحد زملائنا، فأبلغوه رفاقه أنه لم يحضر الجامعة منذ أيّام، بعد أن شارك بخطاب شديد في مهرجان خطابي طلابي.

وتأكّد تغيير الصورة بعد أن عقّب البروفيسور قائلاً إن مساحة الحريات في أميركا أفضل بكثير من العديد من دول العالم، ومن بينها دول شرق آسيا، ولكن لا توجد دولة في العالم بلا سقف وحدود للحريّات.

والناشط السياسي الفطن هو الذي يتجنّب هذه الحدود بمسافة أمان كافية، لأن هذه الحدود غير مرسومة بوضوح في بعض المناطق الفاصلة بين المسموح والمحظور.

وتغيّرت الصورة أكثر بعدما انعطف الحديث بيني وبين مجموعة من أرباب الأسر، العرب المغتربين في أميركا، إلى التعبير عن لهفتهم للعودة إلى أوطانهم ورغبتهم للانتقال إلى دولة خليجية للإقامة والعمل فيها، لدوافع أخلاقية ولأسباب مرتبطة بصعوبة الحياة في أميركا بشكل عام، وخلال أيّام العمل بشكل خاص.

علمتني تجربة الدراسة في أميركا، كيف أكون أكثر واقعية وإيجابية في التعاطي مع الوقائع المعيبة. أصبحت أنظر إلى الوقائع من مناظير متعدّدة ومن زوايا مختلفة. وأحرص على أن أنقل بعض هذه الرؤى إلى أصحاب الرؤى المغايرة، أملاً في تعزيز التعددية والواقعية في التعاطي مع الوقائع، المحلية والإقليمية والعالمية.

فعلى سبيل المثال، حرصت على الاطلاع على الآراء المختلفة حول أحداث بارزة في أميركا، من قبيل ما نشرته الصحف حول مساعي إيلون ماسك – المسؤول في حينها عن وزارة الكفاءة الحكومية – لتسريح مئات الآلاف من الموظفين الفيديراليين، وحول مهلة التسعة أيّام التي منحتها الإدارة الاميركية الحالية في فبراير الماضي لمعظم الموظفين الفيديراليين لقبول عرض الاستقالة مع استمرارية الراتب الشهري حتى نهاية سبتمبر، وحول تسابق الإدارة الزمن لإعادة تعيين مئات الموظفين الذين فصلوا من وظائفهم بالخطأ، من بينهم مسؤولون عن إدارة الأسلحة النووية، ضمن قرارات تسريح عشرات الآلاف من الموظفين الفيديراليين.

لست معنياً في هذا المقال بتقييم هذه القرارات المزعجة والمعيبة الصادرة من الإدارة الأميركية الحالية. ما يهمني هو بيان أن حكومة أكبر اقتصاد في العالم تلجأ أحياناً إلى قرارات مزعجة للمواطنين، وأن حكومة أقوى جيش في العالم قد تصدر قرارات خاطئة تربك أركان جيشها وتهدد أمنها الخارجي.

وعلى المستوى المحلّي، لست بصدد الدفاع عن «قرارات مزعجة» صدرت عن حكومتنا الحالية ولا الحكومات السابقة. فغرضي الوحيد هو الدعوة إلى تطوير نهجنا في التعاطي مع تلك القرارات، من خلال تقييمها قبل الحكم عليها، والتعاطي بإيجابية مع القرارات الحكومية التصحيحية، عوضاً عن توظيفها في إحراج الحكومات... «اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه».

abdnakhi@yahoo.com