حين خطّ الكاتب سمير عبدالعظيم، فيلم «أفواه وأرانب» من بطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين، لم يدرك أن العنوان سيصبح مع مرور الزمن مرآةً لواقع ممتد في حياتنا، وعنواناً صالحاً لعشرات المقالات في الوطن العربي، لم يكن يعرف أن الحكاية التي صاغها عن أُسرة يطاردها الفقر وتثقلها الأفواه الكثيرة، ستتحوّل لاحقاً إلى رمز لحكايات أخرى، منها حكاية الإعلام الذي نعيشه اليوم.

في الفيلم كان المشهد واضحاً... بيت مكتظ، أصوات متداخلة، وجوع يتكاثر مع كل مولود جديد، وإذا أسقطنا هذا على الإعلام فسنجد الصورة أكثر فوضوية: برامج تتناسل بلا نهاية، مذيعون يظهرون فجأة كما لو كانوا «أرانب» خارجة من قبعة ساحر، ووجوه تملأ الشاشات والمنصات بغير رصيد معرفي أو مهني، والنتيجة طبعاً ضوضاء غطت على الجوهر.

الأفواه في إعلامنا اليوم ليست مجرد بشر يتكلمون، بل هي أقلام تكتب، حسابات تغرّد، قنوات تبث، ومنصات تسرف... لكن حين تبحث عن القيمة، تصطدم بالفراغ، الأفواه هنا تعني التضخّم، والأرانب تعني الإسراف في إنتاج محتوى بلا طعم ولا جدوى، كأننا أمام سوق مزدحم، كل بائع فيه يصرخ ليجذب الانتباه، لكن البضاعة في النهاية متشابهة ورخيصة.

ومثلما وقفت فاتن حمامة في الفيلم بوعيها ورفضها لأن تكون مجرد رقم إضافي في أسرة منهكة، هناك في الإعلام اليوم قلة قليلة ترفض أن تتحول إلى «أرانب»، إعلاميون ومؤسسات إعلامية يتمسكون بالصدق والجودة، يعرفون أن الرسالة أثقل من الاستعراض، وأن بناء الثقة أصعب من جمع المشاهدات، هؤلاء هم الاستثناء الذي يمنحنا الأمل في وسط الغبار.

رأيي... التحدي الحقيقي في اختيار القليل العميق على حساب الكثير السطحي، ونمنح الكلمة مكانها الطبيعي فوق الضوضاء، عندها فقط... لن يتحول عنوان «أفواه وأرانب» إلى قدر دائم نعيشه، بل إلى درس تعلّمناه وتجاوزناه.

نهاية المطاف: كثرة الكلام أحياناً تفضح قلة الأفكار.