«لآخِر مرة رح نكون سوا».

هكذا بديا... زياد مُسجّى في نعشٍ وفي رقاده كأنه يَهمس «أنا صار لازم ودّعكن»، وفيروز أمامه على المقعد داخل الكنيسة «تحرسه» بدموعٍ صامتة وكأنها تنتظر إشارةً من الابن - المايسترو لترنّم «أنا الأم الحزينة ولا مَن يعزّيها».

كان وداعُ «موزار لبنان» صعباً أمس على «بلاد الأرز»، ولكنه كان أصعب على «أم زياد» التي سَرَقَ الموتُ منها نبضَ القلب، وضَرَبَ لها موعداً مع فراقٍ مُفْجِعٍ لمَن كان على مدى نحو نصف قرن، لا سيما بعد رحيل عاصي الرحباني، رفيق الدربِ والـ «ملاك الحارس».

سيدة الصوت والصباحات كانت أمس سيدة الصمت في حضرة غروب حياةِ ظِلّها ونور العينين... «عصفورة الشرق» التمستْ السكونَ الذي تردّد هديرُه في لبنان والعالم العربي وقال كل شيء من دون أن يقول وكأنه يناجي... «ها حبيبي».

«الصوت الساحر» احتجبَ في وداع زياد وراء بريقِ دموعٍ سالتْ خلف ستار نظارات سود أخْفَتْ نظراتٍ لا بد أنها كانت تسترجع الماضي بمجده والانكسارات، من فقدان الزوج (1986)، حامل مفاتيح «المملكة الرحبانية»، إلى الخسارة المؤلمة للابنة ليال، بعد نحو عامين (عن 29 عاماً).

7 ساعات، كانت بالنسبة للبنانيين وكأنها توازي 70 عاماً تربّعت فيها «جارة الوادي» على نجوميةٍ أسطورية طبعتْها بابتعادٍ عن الأضواء والضوضاء، عن العدسات والشاشات.

هكذا فعلها العبقريّ زياد مرة جديدة... فابن «الشعب المسكين» الذي تجرأ في حياته على نقل الأيقونة فيروز إلى فضاءاته الفنية، أخرجَها بعتمة موته لتكون مع «الشعب الحزين» لرحيله، وتحت ضوءٍ لم يَرصدها يوماً إلا فوق مسارح تلألأت عليها مَن صنعت جمهوريةً من صوتٍ ملائكي حلّق بأعمال عاصي ومنصور ولاحقاً مع الابن «توأم الروح» إلى حيث الأحلام تُنسج بخيوط الأمل والواقعية تطوّع الخيال والأساطير.

لم يَسبق لفيروز أن أسقطتْ كل هالة الأسطورة، لتكون فقط الأم التي كسرتْ في الوداع الأخير لنجْلها كل القواعد التي أرستْها، فبدت وكأنها «بلا دروعٍ» تَوارتْ خلفها على مرّ العقود «نجمة النجمات» حارسةِ المجد الرحباني.

إلى الكنيسة حيث سُجي نعش زياد، وصلتْ بين الجموع، مشتْ وبجانبها ابنتها ريما، على وقع ترنيمة «الأم الحزينة»... مكسورة الخاطر والقلب، دخلتْ بخطوات ثقيلة كأن فيها كل الدرب الذي مشتْه مع ابنها منذ أن كانت «سألوني الناس» في 1973.

أمام النعش جلست، وعلى رأسها وشاح، وخلف النظارات كل الحكاية بحُلْوها ومُرها... هنا لم تكن «فيروزة لبنان» إلا الأم التي تودّع فلذة كبدها، بتماسُكٍ وصلابة، وتواضعْ وكِبر، لم يْخْفوا دموعاً مسحتْها في صالون الكنيسة حيث حرصتْ على تقبُل التعازي شخصياً.

فيروز هنا... عواجل كانت كافية لتجعل وداع زياد الرحباني حدثاً مزدوجاً جَذَبَ الكاميرات والقلوب وعشّاق المبدع الكبير وجيلاً لم يسبق أن كان مع «السيدة» وجهاً لوجه، فكيف وهي تمسك بيد ابنها حتى مثواه الأخير بحزنٍ عميق أبكى لبنان، من أقصاه إلى أقصاه.

في التشييع الرسمي – الشعبي في كنيسة رقاد السيدة في بلدة المحيدثة – بكفيا، حضر الجميع... من اليسار إلى اليمين وما بين بين... سياسيون تقدّمهم رئيس الحكومة نواف سلام الذي شارك في مراسم الجنازة وقلّد زياد باسم الرئيس جوزاف عون وسام الأرز الوطني من رتبة كوماندور، وفنانون، شعراء، ومثقفون ومحبّون كثر.

جالسةً على كرسي وريما قربها لم تفارقها، وإلى جانبهما الشقيقة هدى تقبّلتْ فيروز التعازي، وكان الجميع ينحنون أمامها مواساةً في مصابها الأليم... ولم تتردّد ماجدة الرومي في الركوع منهارةً وتقبيل يدها إكراماً.

وفي التعازي التي استمرّت حتى السادسة مساءً وتستمرّ غدا حضرت اللبنانية الأولى السيدة نعمت عون، وعقيلة رئيس مجلس النواب نبيه بري رندة، قبل أن تغض الكنيسة بآلاف المعزّين من محبي زياد ورفاق مشواره.

رحلة الوداع

انطلقت من الحمرا

بدأت رحلة الوداع الأخير والكبير، صباح أمس، من منطقة الحمرا في بيروت، التي كانت تحتل مكانة خاصة في قلب زياد. ومن أمام مستشفى خوري، ارتسم مشهد مهيب أراده له أصدقاؤه ومحبوه.

فمنذ ساعات الصباح الأولى، تجمعوا مئات في انتظار خروج نعشِ مَن اعتُبر أنه أرسى بفنه ومسرحه ونقده الساخر والعميق «نظاماً اجتماعياً» خاصاً وعابراً لخطوط التماس العسكرية والسياسية والنفسية.

بالدموع والورود والتصفيق، وعلى وقع أغنيات وأعمال فنية من توقيعه، واكبتْ الجموع الجثمان الذي وضع في سيارة رباعية الدفع، من بوابة الطوارئ، في حضور خالة الراحل، هدى حداد، وأبناء أعمامه.

بعدها شقّ موكب التشييع، طريقه بصعوبة، في شارع الحمرا الرئيسي، وسط احتشاد المواطنين على جانبيْ الطريق لإلقاء النظرة الأخيرة على زياد ونثْرهم الورود، مع بثِّ أغنيات فيروز التي لحّنها.

وسار الموكب الذي تقدّمه دراجو قوى الأمن الداخلي، على طول خط الحمرا، ليتّجه بعدها الى منطقة الصنائع، ومن ثم شارع سبيرز - برج المر، فالأشرفية، مروراً بمحطات وداعية عدة بينها في شارع الأخوين رحباني في منطقة إنطلياس، صعوداً بعدها باتجاه بلدة المحيدثة في بكفيا، حيث جرى الاحتفال بالصلاة على راحة نفسه.

وعندما وصل النعش إلى باب الكنيسة حَمَله أقاربه ومحبوه على الأكفّ إلى داخل الممر الرئيسي، وسط تصفيق وهتافات وتكريم بالورود الحمراء، وهو المشهد الذي تكرر بعد انتهاء المراسم ومواراته في مدفن اختارتْه العائلة قرب منزل السيدة فيروز في المحيدثة – بكفيا.

نواف سلام لزياد

«المتمرد والعبقري»:

كنتَ صرخة جيلنا الصادقة

ألقى الرئيس نواف سلام في تشييع زياد الرحباني كلمة قال فيها: «أتكلم حيث تختنق الكلمات، أقف بخشوع أمام الأم الحزينة، والعائلة، والأصدقاء، ولبنان كلّه شريك في هذا الحزن الكبير. زياد المبدع العبقري، كنتَ أيضاً صرخة جيلنا الصادقة، الملتزمة قضايا الإنسان والوطن. وقد قلتَ ما لم يجرؤ الكثيرون منا على قوله. أما بالنسبة لـ «بكرا شو»، فللأجيال القادمة، ستبقى يا زياد صوت الجمال والتمرد، وصوت الحق والحقيقة حين يصير السكوت خيانة».

أضاف: «أيها الأحبة، قرر السيد رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، منح الفقيد الغالي وسام الأرز الوطني من رتبة كومندور، وقد كلفني – فتشرفت – بأن أُسلمه إلى العائلة الكريمة، متقدماً منها، باسم السيد الرئيس وباسمي الشخصي، بأحر التعازي، سائلاً القدير أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح عليائه، وأن يلهم عائلته ومحبيه الصبر والعزاء».

لقطات

• صدرت احتجاجات من جهات إعلامية وشعبية ورسمية وناشطون على «السوشيال ميديا» بسبب عدم صدور قرار بإعلان الحداد الوطني الرسمي في لبنان على رحيل زياد الرحباني كونه قامة وطنية كبيرة.

• كانت كارمن لبس، التي ارتبطت بزياد لنحو 15 عاماً أول الواصلين إلى الكنيسة في تمام الساعة 11 صباحاً وشوهدت تحتضن النعش وتجهش بالبكاء.

• حضر أولاد منصور الرحباني إلى الكنيسة لتقبل التعازي متخطين الخلافات بين ورثة منصور وورثة عاصي الرحباني.

• «الله يصبرك يا فيروز» هتافات صدحت بها الأصوات لحظة وصول «السيدة» إلى كنيسة رقاد السيدة.

• في موازاة حضور نجوم الفن في لبنان، شاركت في التشييع الفنانة لطيفة التونسية التي ربطها تعاون فني مع زياد الرحباني.

• ورود وإكليل وتكريم خاص جرى تنظيمه داخل الكنيسة، وليس فقط في صالون التشييع.

• أعلنت رئيسة بلدية بكفيا - المحيدثة نيكول الجميّل، مجموعة من الإجراءات المتعلقة بتدابير السير الخاصة بتشييع زياد الرحباني.