لم يَحْتَجْ لبنان لتنكيسِ الأعلامِ في حضرة الموت الذي خَطَفَ العبقريّ و«الثائر الدائم»... فالأحلامُ هي التي انحنتْ في رثاءٍ كأنه لـ «أحبة (تاري) ع غفلة بيروحوا».

زياد الرحباني الذي صار اسمُه لَقَباً طَبَعَ مسيرةَ أكثر من نصف قرنٍ تحت الأضواء وفي ظلالها، أبى إلا أن تَحمل المحطةُ الأخيرة في حياته بَصَماتٍ من تَمَرُّدٍ صَنَعَ مارداً في الفن، منذ أن أطلّ للمرة الأولى على الخشبة في «المحطة»، لتكرّ مسرحيات وأغنياتٌ من توقيع مُراهِقٍ لم يُرْهقه يوماً إرثُ أبٍ كان الرئيس الفخريّ لـ«الحلم اللبناني» ولا أثْقَلَتْه مكانةُ الأم الأيقونة التي غنّت أول ألحانه، وكان بعد في الـ17، وحلّقتْ معه يوماً إلى فضاءاته.

فزياد، ابن الـ69 عاماً، عضّ على مرضه (تشمُّع الكبد) طويلاً، وبدا كأنه يرفض أن يعدّ عذاباتٍ تنتظره لو خضع لجراحةٍ (زرع كبد)، حتى ظنّ القريبون منه أن «القَدَريةَ» لديه جعلتْه يفضّل ألا «يفلت» من موتٍ في المستشفى لم يفاجئ مُحِبّي «الحلقة الضيّقة» ولكنه صَعَقَ وطناً كان الرحباني بمثابة الـ«حكواتي» الذي يَضع الإصبعَ على جراحِ واقعه وحروبه ويستشرف مستقبله القاتم في السياسة والأمن والاقتصاد.

«الأم الحزينة»

ولم يكن عابراً أنه على قدر الصدمةِ التي خلّفها غيابُ مَن تَهَكّم في المسرح والموسيقى بسخريةٍ عميقةٍ وتحَكَّم بالنوتات وجدّدها بإبداعٍ حاكه بخيوط الشرقي والجاز والكلاسيك، كانت القلوب المفجوعة مع السيدة فيروز، «الأم الحزينة» التي تداول البعض أن رحيل «قلبها» كَسَرها وكأن لسان حالها «لأول مرة ما منكون سوا» التي كانت أول ألحانه لها (العام 1973) وقدّمتْها في أول ظهور على المسرح من دون زوجها عاصي الذي كان حينها في المستشفى.

في 26 يوليو 2025، صمت «هدير البوسطة»، ورَحَل «زعيم الشعب المسكين» الذي بدا وكأنه «عنيد» بإزاء الخبر الأليم الذي تَصَدَّر كل وسائل الإعلام اللبنانية، كما العربية، وأصدرت عنه لاحقاً مستشفى خوري (في محلة الحمراء) لاحقاً بياناً أعلنتْ فيه «أن الفنان الاستثنائي» فارق الحياة عند التاسعة من صباح اليوم.

«قال كلمته ومشى»

وفي انتظار لحن الوداع الأخير، ومع بيانات النعي الرسمية والفنية، ورثاء جمهوره العريض، لم تتّسع الشاشات والصفحات لمسيرةِ قامةٍ اعتُبرت من آخِر عنقود الكبار في الفن والموسيقى والمسرح والتجديد.

فهو الصغير الذي اقتحم الخشبة التي تحوّلت «مانيفست» لِما قد يكون، ولم تكن مبالغة الانطباعات عن أنه صاحب حدس أصاب في يوميات اللبنانيين ومصائرهم ومصائبهم.

وكان علنياً في البوح بأفكاره ومواقفه من دون مداراة... تعوّد أن يقول كلمته ويمشي بعدما أعاد تدوير الحلم الرحباني الذي كان في خلفية أعمال عاصي ومنصور وفيروز في محاكاتهم حال اللبنانيين وأوجاعهم، فجَعَله مُعاشاً وأكثر واقعية.

وزياد، الذي تنوّعت أعماله بين التأليف الموسيقي والعزف والكتابة المسرحية والتمثيل، تعاون مع عدد كبير من الفنانين أبرزهم والدته التي لحّن لها العديد من الأغنيات إلى جانب «سألوني الناس»، وبينها «وحدن بيبقوا» و«يا جبل الشيخ» و«ع هدير البوسطة» و«حبيتك تنسيت النوم» و«حبو بعضهن»، بالإضافة الى تلحين المقدمة الموسيقية الشهيرة لمسرحية الأخوين رحباني وفيروز «ميس الريم».

أعمال ومسرحيات

في موازاة قيادته انعطافة جديدة في مسيرة السيدة فيروز مع ألبوم «في أمل» و«كيفك أنت»، ارتبط اسم زياد الرحباني بالراحل جوزيف صقر الذي قدّم من توقيعه ألبوم «بما إنو»، قبل أن يضيف إلى رصيده أعمالاً وألبومات بأصوات فنانين لبنانيين وعرب وبينهم لطيفة التونسية (ألبوم «معلومات أكيدة»).

وفي مسرحياته، الأقرب الى الاجتماع – السياسي، توغّل الرحباني في خفايا الانقسام الطائفي اللبناني ومظاهره التي أكثر ما تجلّت إبان الحرب الأهلية (بين 1975 و1990)، وأشهر أعماله التي كأنه كتبها بألسنة المهمّشين (سهرية) عام 1973، و(نزل السرور) عام 1974 و(بالنسبة لبكرا شو؟) عام 1978 و(فيلم أميركي طويل) عام 1980 و(شي فاشل) عام 1983، و(بخصوص الكرامة والشعب العنيد) عام 1993 و(لولا فسحة الأمل) عام 1994.

كما قدّم حلقات إذاعية عدة منها (بعدنا طيبين قول الله) للإذاعة اللبنانية عام 1975 مع المخرج اللبناني جان شمعون، و(العقل زينة) في حلقات عدة قدمت لإذاعة صوت الشعب اللبنانية.

وزياد الذي عُرف بمزجه بين الموسيقى الشرقية والجاز والكلاسيك، قدم بصوته مشاركا في أغنيات منها (بلا ولا شي بحبك) و(قوم فوت نام) و(أنا مش كافر بس الجوع كافر) وبداية ونهاية أغنية (مربى الدلال ربوكي وتعذبوا فيكي يا دلال) التي كان فيها يشير الى زوجته السابقة.

... عودك رنان

«انفجرت» مواقع التواصل الاجتماعي حزناً على رحيل زياد الرحباني «الذي لن يتكرر».

وكتبت زوجته السابقة الممثلة كارمن لبس على صفحة سوداء «كل شي راح. حاسة فضي لبنان».

كما كتب الصحافي ريكاردو كرم «من بين أكثر اللحظات وجعاً في المشهد الموسيقي العربي. رحل زياد رحباني العبقري الثائر»، مع موسيقى حزينة لمسلسل لبناني (آثار على الرمال) وصورة له مع والدته.

وقال الكاتب اللبناني غسان شربل «زارك الموت لكن لن يزورك النسيان. عودك رنّان» في إشارة إلى الأغنية الشهيرة التي قدّمتها فيروز.

وعلّقت الصحافية ضحى شمس التي تَعرف الرحباني منذ 30 عاماً بالقول: «كان زياد ضميرنا، ضمير المجتمع اللبناني، وأكثر شخص فهم المجتمع اللبناني وكان يعرف إلى أين يتجه هذا المجتمع»، مضيفة بتأثّر «فقدنا قلبنا».

وحدة وطنية في نعي «المُبدع الحرّ»

نعى لبنان الرسمي زياد الرحباني بكلماتٍ عَكَسَتْ إجماعاً وطنياً نادراً.

وأعرب رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون عن ألمه «لغياب الفنان الكبير بعد مسيرة فنية استثنائية تركت بصمتها العميقة في وجداننا الثقافي»، معتبراً أن «زياد الرحباني لم يكن مجرد فنان، بل كان حالة فكرية وثقافية متكاملة».

وأكد أن أعماله «ستبقى حيّة في ذاكرة اللبنانيين والعرب، تلهم الأجيال القادمة وتذكّرهم بأن الفن يمكن أن يكون مقاومة، وأن الكلمة يمكن أن تكون موقفاً».

ونعى رئيس مجلس النواب نبيه بري زياد الرحباني، معتبراً أن «لبنان من دون (زياد) اللحن حزين... والكلمات مكسورة الخاطر... والستارة السوداء تُسدل على فصل رحباني إنساني ثقافي فني ووطني لا يموت».

وأشار رئيس الحكومة نواف سلام الى أنه «بغياب زياد الرحباني، يفقد لبنان فناناً مبدعاً استثنائياً وصوتاً حراً ظلّ وفيًاً لقِيَم العدالة والكرامة، وجسّد التزاماً عميقاً بقضايا الإنسان والوطن».

كما رثاه وزير الثقافة غسان سلامة قائلاً: «كنا نخاف من هذا اليوم لأننا كنا نعلم تفاقم حالته الصحية وتضاؤل رغبته في المعالجة. وتحولت الخطط لمداواته في لبنان أو في الخارج إلى مجرد أفكار بالية لأن زياد لم يعد يجد القدرة على تصور العلاج والعمليات التي يقتضيها. رحم الله رحبانيا مبدعا سنبكيه بينما نردد أغنيات له لن تموت».