الغناء بقية مما يختلج في خواطر النفوس التي أعيت اللسان، فأبرزتها الألحان، فهو أقوى المؤثرين جماهيرياً لساناً وأوسعهم بياناً وأسرعهم نفاذاً إلى القلوب وامتزاجاً بالنفوس واستيلاءً على العقول! حتى ترى الناس سُكارى وما هم بسُكارى.
وبيان ذلك لما أدرك أعداء الإسلام شدة هذا التأثير في هوى النفوس استخدموه كأحد معاول الهدم لأعمدة هذه الأمة، وتالياً تخديرها... ليسهل تشطيرها وتقسيمها... والمسلمون في غيّهم غافلون!
ومع أن الغناء والتغنّي بالشعر فن من الفنون الطبيعية تهتدي إليه الأمم بالفطرة وبالمناظر الريفية وبأصوات هديل الحمام وخرير المياه وحفيف الأشجار... ومناظر الأزهار فأنتجت لنا كل دويلة عربية خلاصة قصائدهم وأشعارهم الشعبية التي تكرّر طول العام في المناسبات الدينية والوطنية.
/>وتاريخياً مازال هذا الفن مبتدئاً ببداوة الأمة العربية ولا يكاد يتخطى حِداءُ الجمّال ومناغاة الأطفال وضروب الأمثال، فإذا هو ينتقل من مضيق الحاجات إلى فسيح الكماليات، فتوسعت أنغامه وضروبه وتفننت في أدواته وآلاته، ورفد ذلك توافد الكثير من سبايا الفرس والروم موالي في بيوت العرب، وجلبوا معهم الطنابير والمعازف والمزامير يلحنون بها أشعارهم الأعجمية فسمعها منهم العرب فاقتبسوها ولحّنوا بها أشعارهم والمعلقات.
يقول ابن خلدون (ذكرنا معنى الغناء فأعلم أنه يحدث في العمران إذا توفّر وتجاوز حد الضّروريّ إلى الحاجيّ، ثمّ إلى الكماليّ، وتفنّنوا فيه، فتحدث هذه الصّناعة، لأنه لا يستدعيها إلّا مَنْ فرغ عن جميع حاجاته الضّروريّة والمهمّة من المعاش والمنزل وغيره).
توالت المؤلفات في الغناء، فمنذ أكثر من ألف ومئتي سنة جاء يونس الكاتب ووضع كتاب «النغم» و«القيان»، وبهذا يكون قد سبق أبا الفرج الأصفهاني وكتابه «الأغاني»، ثم كتاب العقد الفريد وغيره من المؤلفات التي اختلط فيها الحابل بالنابل وامتلأت بالشبهات والشهوات وتشويه سيرة سلاطين الدولة الأموية والعباسية وعلماء المسلمين وفقهاء الأنصار... وبالرغم من غضارة الإسلام وغضاضة التدين في ذلك العهد – عهد الصدر الأول – وشدته في النهي عن التلهي بالغناء والمعازف بأنواعها ونعيه على مَنْ يحترف بذلك أو يتخلّقه... فقد اشتهر بعض المغنين فكانت لهم الحظوة في بعض بلاط السلاطين والنصيب الأوفر من الهبات والصلات، وخاصة كلما بعُد العهد عن عصر الرسالة ولا غرو في ذلك فسلطان الوجدان عندهم فوق سلطان الأديان، ومازال هذا الفن يتهاوى بفقد القيم وخلوه عن مكارم الشيم.
ويشهد لهذا اعترافات بعض مشاهير الفنانين المنصفين وليت شعري ماذا على المغنين والشعراء في الكويت لو عقدوا بينهم عهداً في (رابطة الأدباء) أن يهذبوا أخلاق أمتهم ويرفعوا شأنها ليكون لهم بعد الله الفضل في نهضتها ورقيها مما عجز عن دَركِهِ السياسيون والنخب الأكاديمية؟
فتنتظم القصائد التربوية الرقيقة السائغة ليستوعبها الصغار في فضائل الأعمال ومكارم الأخلاق والشجاعة وحب الوطن، والسمو عن سفاسف الأمور وثقافة – الفاشنيستات – والترغيب في عظائم الأمور ومصاعب المهمات، وهذه الصراحة مطلوبة منّا اليوم بل هي مستحقة وضرورية لسبب واحد فقط وهو أن المصانعة والمجاملة في الدين ليست سبيل القوة والاتحاد كما يظن الذين يصانعون ويجاملون ويتلونون بالألوان! وما هي إلّا الخداع والغش وما علمنا أن أمةً أسعدها الغش أو رفعها الخداع والدليل ها هي الشعارات والتجمعات والصيحات تطالعنا كل يوم وتصدر بها الصفحات الأولى في الجرائد والمجلات يفتتح أكثرها كل يوم فصول العداوة والبغضاء بمخالفات صريحة لتعاليم الإسلام السمحة، يغلفونها بعناوين المحبة والوطنية والإخاء والمساواة منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمان، فلم يَفِ خيرُها بشرها ولا نفعُها بضرِّها بل السبيل إلى ذلك أن يعلم المتدين علماً صحيحاً أن الاختلاف في الدين شيء والتباغض فيه شيء آخر، وأن الدين الذي يسوق العالم إلى الهلاك والفناء لا يُمكن أن يكون ديناً إلهياً.
ولا يستطيع المسلم أن يسمع كلمة أو أغنية تنال من قيمه وثوابته والغض من الأخلاق دون أن يغضب لها، لأنه من دينه على بيّنة والغضب رذيلة من الرذائل حتى يكون لله فهو أفضل الفضائل. وللحديث بقية.