تعددت التعاريف في القاموس السياسي لما يسمى بالثورة البيضاء، لكن في مجملها تجتمع على اتخاذ خطوات تصحيحية وجذرية في شتى القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في إطار الدستور. لقد تناد الكثير من الحكومات والأنظمة لما يسمى بالثورة البيضاء التي تستهدف التغيير السلمي، وقد نجح بعض منها في ذلك بينما فشل البعض الآخر. ماو تسي تونع، الزعيم الصيني الذي قاد الثورة الصينية حاول أن يصنع ثورة أخرى أطلق عليها بالثورة الثقافية، ولكنه فشل ولكن بعد مجيء دينج زياو بنج، تبنى تغييراً جذرياً في الرؤية الاقتصادية، واستطاع أن يحقق نقلة اقتصادية وتكنولوجية وثقافية وعلمية كبيرة منذ عام 1976، حيث تعملق التنين الصيني ليكون على قمة سلم القوى الدولي.
المهاتير محمد، في ماليزيا، ولي كوان يو، في سنغافورة، وبارك تشونغ هي لي، في كوريا الجنوبية، كل أولئك زعماء الستينات والسبعينات هم الذين قادوا دولهم إلى القمة بفعل تغييرات جذرية اطلق عليها ثورات بيضاء.
في المقابل، فشل شاه إيران في ثورته البيضاء التي ارتدت أمواجها عليه فكلفته عرش الطاووس، وهكذا حاول معمر القذافي، في ليبيا ولم يجن إلا التخلف، وثورة زين العابدين بن علي، في تونس حيث أطلق عليها بالبيضاء بعد انقلابه على الحبيب بورقيبة، حيث ادخلت تونس إلى بوتقة البركان التي انفجرت مع انتحار محمد البوعزيزي!
الدول عندما تواجه انسداداً في الأفق الطرق، والمعاناة في الدوران المنغلق، لابد وأن تجنح إلى خيارات ولعل بعضها يكون صعباً وجريئاً، ولربما مكلفاً في وهلته الأولى. وحسبي إننا في الكويت نواجه أزمات متراكمة كل واحدة منها تلد أخرى، وهذا ما نتج عن تطوره ظواهر عدة، منها عدم الاستقرار في السلطتين التشريعية والتنفيذية، والتراجع في الكثير من الأصعدة الاقتصادية والفنية والتعليمية والتكنولوجية والبنية التحتية، بل أكثر تلك المظاهر هو ما يتجسد في التمزق في النسيج الاجتماعي وتدني رأس المال الاجتماعي، وتزايد مؤشرات عدم الثقة بالمؤسسات الرسمية علاوة على خمول المجتمع المدني، وتصاعد نسب الجريمة والطلاق والفساد، وانحدار في منظومة قيم العمل.
وبالنظر إلى الدول الخليجية النظيرة، تراجعت الكويت في الأغلبية العظمى من المؤشرات وبات ترتيبها يقع بين السادس والخامس في أغلبها، وهو ما يدل على وجود أزمة حقيقية لا يمكن معالجتها وفق الآليات المتعارف عليها، فما هو الحل؟
الدكتور حسن الصميلي في مقاله القيم بعنوان: «من متطلبات الثورة البيضاء... تفكيك المخزن» يطرح وصفة معقولة تناسب الوضع في المغرب، وقد تكون نافعة للتجربة الكويتية أيضاً. يعالج في مقاله ذلك إشكالية عدم القدرة من التخلص من مكونات وقيود «المخزن» الاجتماعي السياسي والاقتصادي والثقافي التي تقف حائلاً دون بلوغ أهداف الدولة. والمقصود بالمخزن هو ما فرزته النخب الاقتصادية والسياسية، نتيجة تحالفاتها واتفاقياتها العرفية أو القانونية، من ثقافة مجتمعية عامة تنامت معها الهيمنة الفكرية والمؤسساتية على الدولة ومفاصلها حتى غدت مكبلة بها وكلفة بأعبائها مع تقادم الزمن، وبالتالي أصبحت هي المعوق الأساسي لقدرة الدولة على مواكبة التغيير المطلوب للتطور والبناء.
يشرح الصميلي مكونات المخزن المغربي إبان العصر الاستعماري إلى الوقت الحالي وكيفية انتقاله وقوته وطبيعته وفقاً للبيئة المغربية.
في الكويت لدينا مخزن ايضاً، ولكنه ذو نسق مختلف عما هو عليه في دول أخرى. هذا المخزن الكويتي هو عبارة عن مكونات سياسية واقتصادية واجتماعية موروثة منذ بداية القرن العشرين تقريباً حينما بدأ الحراك السياسي - الاقتصادي بين السلطة وبعض النخب التجارية وانعكاساته المجتمعية التي اشاعت ثقافة سياسة عامة فضلاً على مرحلة صراع انتهت بتفاهمات أدت إلى تقاسم بعض مفاصل السلطة السياسية الاقتصادية والمؤسساتية، وهذا تجلى بوضوح منذ عام 1938، وما لحق بعدها من مراكز نفوذ مثل مجالس البلدية والمعارف والاستشارية إلى أن حلت مرحلة الستينات فأخذت شكلها الدستوري المقنن ولكن بقراءة ثقافية عرفية لما قبل المرحلة الدستورية، وهو الأمر الذي جعل المخزون الدستوري والمؤسساتي للدولة مرتبطا بشكل مباشر لثقافة نخبوية كانت سائدة بفعل التقسيم الاقتصادي والاثني والاجتماعي لمرحلة ما قبل النفط.
وعلى الرغم من محاولة بعض النخب السياسية والمجتمعية التي انتظمت على شكل تيارات وجماعات سياسية وفكرية لنسف بعض من تلك الأفكار وعلى رأسها فكرة «تمايز الحقوق بين المواطنين (حق طبقة التجار ضد حق الطبقة الوسطى/ حق الكويتي الأصيل مقابل حق الكويتي الدخيل/ حق الحضري وحق القبلي» باعتبارها مظاهر منافية لمنطوق الدستور، إلا ان القراءة العرفية للدستور وهيمنة الثقافة السياسية التي أثرت في العمل المؤسسي التشريعي والتنفيذي قد كبل تلك المحاولات وجعل حراكها في اطارها النظري والايديولوجي فقط. لقد غدت سياسة التمايز عملا مقبولا على الرغم من انه غير معقول، وذلك باعتبارها نتاج حقوق وملكية تاريخية وبالتالي لا يمكن النظر إليها بصفتها تمييز! وفي ظل هذا المقبول غير المعقول نتجت ثنائية الصراع حول أهم محور في الدولة المعاصرة والذي يتمثل في المواطنة! فبعد مضي أكثر من ستين عاماً على تأسيس الدولة الدستورية لانزال غير متفقين على تعريف المواطنة بشكل «معياري»، وليس لغويا فقط. والتعريف المعياري للمواطنة هو تجسيد قياسي دقيق يقوم على أسس قانونية لا تختلجه عواطف أو انتقائية بحيث يتساوى في سياقه الجميع في إطار المنافسة لمن يقدم أكثر للوطن وليس العكس لما يقدمه الوطن له.
ومن هذا المخزون الذي يتعين النظر فيه من أجل الانطلاق إلى تغيير إيجابي في إطار الدستور والقانون، هو ضرورة التحديث والتخلص من تقديس النصوص وعقدة الخوف من المجهول! لقد مضى على الدستور الكويتي أكثر من ستين عاماً ولابد من تطوير هذه الوثيقة بالشكل الذي يحاكي متطلبات الألفية الثالثة والتطور الهائل الذي عم المجتمع الدولي. فليس من المعقول أيضاً ان تتقيد عملية «تمدد الدولة الطبيعي» في اطار وثيقة تم صياغتها لطبيعة دولة ضمن طرف زماني محدد! كما أن التحرر من عقدة الخوف من تعديلات قد ترسم تراجعاً في المكتسبات والحريات لا يمكن أن يصنع دولة ممكن ان تتخذ قرارات صعبة مطلوبة وملحة قبل فوات الأوان، فبقاء الدولة ونهوضها واستمرارها وتطورها أولى من الاسترخاء على وسادة ناعمة تحت مبرر الخوف من المجهول. ففي الحقيقة نحن لا نواجه مجهولاً محدوداً، بل نواجه مستقبلاً معلوماً قادماً يتمثل في تخلفنا عن الركب في الأصعدة كافة.
لسنا بحاجة إلى أي نوع من الثورات الملونة كما تؤدلجها بعض الأحزاب العربية والإسلامية، ولست من دعاة الثورات أو التحولات الثورية، وإنما استعرت مفهوم الثورة البيضاء لتقريب الصورة فقط، ولدعم فكرة ضرورة الاقدام على اتخاذ قرارات وسياسات جريئة ورشيدة ومحكمة تتخلص من عبء المخزون الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي لكي تنطلق الدولة إلى آفاق جديدة كما حدث في بعض الدول مثل قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية، ولعل ما نملكه من قدرات وإمكانيات مادية وبشرية تسعفنا للتغيير بشكل أكبر، ولكننا بحاجة إلى قرارات جراحية، والتي لعلها صعبة، ولكنها دون شك ستكون علاجية اذا تمت بشكل محترف.