السياسيون الإسلاميون ملأوا الساحة والحراك الشبابي والمعارضة باجتهادات على مدى أربعين عاماً!
والاجتهاد السياسي لمن تحقّقت فيه أهليته وشروطه عند الحاجة الداعية إليه جائز في الجملة باتفاق أهل العلم... والأدلة كثيرة، فالرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، اجتهد في السياسة الشرعية حينما أخذ الفداء من الأسرى في غزوة بدر... كما أقرّ سعد بن معاذ - رضي الله عنه - على حُكمه في بني قريظة من اليهود وقال له:«لقد حكمت فيهم بحُكم الله عز وجل من فوق سبعة أرقعة» ومدار هذا الاجتهاد على الأجر والأجرين، فإذا اجتهدَ الحاكمُ ثم أصاب فله أجران، وإذا اجتهد ثم أخطأ فله أجر... وجرى على ذلك عمل الخلفاء الراشدين ومنه قياس أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، مانعي الزكاة على تاركي الصلاة في الحكم فقاتلهم في حروب الردة حتى استقاموا على الإسلام.
وكذا قياس عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حدّ شارب الخمر على أدنى الحدود الثمانين (حد القذف) وذلك لما كثر شرب الخمر في زمنه وتساهل الناس بعقوبته فاستشار عمر، رضي الله عنه، عبدالرحمن بن عوف، فأشار عليه بجعله كأخف الحدود، وعلى هذا الأساس نص الفقهاء على (قول الصحابي) كدليل من أدلة الشريعة في السياسة الشرعية، فقالوا إذا قال الصحابي قولاً وأفتى به وذهب إليه في مسألة من مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها من الكتاب والسنة فهو لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى، قول الصحابي فيما ليس للرأي فيه مجال فهذا حُجة عند أهل العلم له حكم الحديث المرفوع للنبي، صلى الله عيله وسلم، بشرط ألا يُعرف الصحابي بالأخذ عن الإسرائيليات.
الثانية، قول الصحابي فيما للرأي فيه مجال ولم يُنكر عليه أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، ولم يُعلم له مخالف فهذا القول يُعتبر حجة.
الثالثة، قول الصحابي في مسألة من مسائل الرأي والاجتهاد وخالفه غيره من الصحابة، فهذا القول ليس بحجة عند جمهور الفقهاء لأنه لا مُرجح لأقوال الصحابة بعضهم على بعض لأنهم سواسية.
وعلى هذا الأساس كان السلف الصالح يفرّقون بين الشريعة والفتوى، فالأولى ملزمة والثانية لا.
اجتهاد الإسلاميين المعاصرين في مجلس الأمة وتأسيساً على ما سبق بيانه ننظر إلى اجتهاد الإسلاميين السياسيين وما هي أهم الملاحظات عليه، فنقول بشكل عام (بادي الرأي) عدم التفريق بين الرأي والاجتهاد والمذهب - للسياسي الإسلامي - وبين شريعة الله المعصومة، فاختلطت الأمور عن الشباب والعوام ولا يدرون عن هذا القول أو الرأي الذي قاله ذلك السياسي المخضرم، هل هو شريعة الله المنزلة المحكمة؟!
أم هو محض الرأي أو الاجتهاد؟ أو الهوى والعصبية أحياناً والتشفي والنكاية بالخصوم، أو حتى حب الظهور والشهرة!
كل هذا الخلط في الدوافع والمفاهيم أوقع الشباب والقواعد الانتخابية في حرج شديد في مذهب هذا السياسي الإسلامي؟ هل قال بهذا القول بعد اجتهاد وتحرٍّ ومشاورة لأهل العلم أو هو يجدح من قشرة رأسه؟ وهل الإسلام فوضى وقواعد الشريعة يعبث بها السياسي كيفما شاء... أو أن الإسلام قد اكتمل من كل وجه؟ لا يخلو الاجتهاد في استنباط أحكام السياسة الشرعية واستخراجها من أمرين اثنين:
الأول: أن يكون الاجتهاد في فهم النصوص التي تُفيد أحكاماً من شأنها أن تتغير تبعاً لتغير المصالح والأعراف والدول والأنظمة الحاكمة فيها والأحوال كالقوة والضعف للدعوة الإسلامية بحيث يجتهد هذا السياسي الإسلامي - إن كان من طلبة العلم - في توصيف الواقع وتشخصيه وفهمه وملاحظة ما يتعلق به من مصالح ومفاسد وما يكتنفه من أحوال وأوصاف مؤثرة، ثم ينزّل النصوص الشرعية على الواقع ويُغيّر ما يقبل التغيير من الأحكام بناء على تغيّر هذه الأمور التي رُتبت عليها الأحكام وهذا النوع من مسائل السياسة الشرعية، وان كان قليلاً بالنظر إلى النوع الثاني إلا أنه واقع في حياة الناس وقد مرّ بنا أمثلة من ذلك وتؤيده المصالح المرسلة والاستحسان وسدّ الذرائع.
وإن كان السياسي الإسلامي من العوام فعليه أن يسدّ النقص العلمي فيه من إخوانه طلاب العلم الشرعي.
هذا ما أوصى به العلّامة الألباني، رحمه الله، في جوابه عن بعض أسئلة وجُهت إليه بشريط مسجّل.
الثاني: أن يكون الاجتهاد في استخراج أحكام المسائل النازلة والوقائع المستجدة التي لم يرد بحكمها نص أو إجماع أو قياس صحيح، وهذا المجال هو أكبر مجالات السياسة الشرعية، وعليه جرى العمل النيابي الإسلامي متمثلاً باقتراح بقانون أو بتعديل فقرة من قانون أو إضافة أو تصحيح لقانون مخالف لنص المادة الثانية من الدستور وهنا في هذه الحال يجب على السياسي الإسلامي تشخيص الواقع وفهمه بحيث يوازن بين المصالح والمفاسد الشرعية وليست التنظيمية الحزبية ولا التكتيكية السياسية والجمهورية الشعبوية!
ثم هو ينظر في أدلة الاستنباط وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس وسد الذرائع والقواعد الشرعية كقاعدة رفع الحرج ونفي الضرر والعدل والموازنة بينها والنظر في مآلات الأمور وعواقبها عن طريق (فقه التوقّع) ثم يستخرج الحكم المناسب للنازلة في ضوء هذه المنهجية السلفية، وهذا الطريق هو ما أرشد إليه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في كتابه المشهور لأبي موسى الأشعري، بقوله (الفهمَ الفهمَ في ما أُدْليَ إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن وسنة ثم قياس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ثم اعمد في ما ترى إلى أحبّها إلى الله وأشبهها بالحق). وليس أشبهها لرأي التنظيم والحزب!
إذ، الملاحظ خلال مسيرة العمل النيابي الإسلامي الطويلة أن التنظيمات الحزبية اعتبروا رمزهم السياسي مجتهداً اجتهاداً مُطلقاً فهو المفتي وهو المتكلّم بلسان الحزب وهو القاضي الذي يحكم على المخالفين ويصنفهم مع أو ضد الجماعة!
وهو الذي يسوغ له الإفتاء في القروبات الشبابية، وهذا النوع هو أعلى درجات المجتهدين في التنظيم؟ في مقابل الداخلين في سوق العمل السياسي الإسلامي يجب أن يكون مقلِّداً محضاً لمن انتسب إليه حتى أن بعضهم إذا وجد حديثاً صحيحاً مخالفاً لرأي التنظيم أخذ برأي التنظيم وترك الحديث ضارباً به عرض الحائط ولا أدري لماذا إذاً نحارب التقليد الفقهي ونلتزم التقليد السياسي؟!