إنَّ ما يشهده واقعُنا السياسي اليوم من صراعات ومنازعات، مؤشرٌ على غيابِ الفهم الصَّحيح لماهيَّة السياسة؛ باعتبارها «فن المُمكن» وقدراتِه على الاستشرافِ الذي يجعلُ هذا المُستحيل مُمكناً. وللأسف لا يزالُ واقعُنا السياسي أسيرَ الفهم السطحي للسياسة، وليست مبالغة لو شبّهنا هذا الواقع بـ«لُعبة شياطين» يُمارس فيها كل أنواع المؤامرات والدسائِس وافتعال الأزمات، وكلُّ هذا من أجلِ سعي النُّخبة السياسية للحفاظِ على عرش الزعامة وفقَ قواعدَ الأمس، دُون اعتبارٍ لحركة التاريخ.

ويتغافل معظم السياسيين بشتّى توجهاتهم وتكتلاتهم وانتماءاتهم إلى أنَّ السياسة ليستْ كذلك؛ فهي البصيرة والرُّؤية القائمة على قراءة الواقع ومعرفة إمكاناته وقدراته وتوازناته، مصحُوباً بقوَّة الإرادة الصادقة والعزيمة والإدراك الكامل للأحداث؛ لتوسيعِ أُفق المُمكن. كما يفتقرُ بعضُهم إلى الأفقِ الاستراتيجي طويلِ المدى الذي يجعلهُم قادريْن على توظيفِ الحرَاك المُجتمعي، وتوجيهه للطريق الصَّحيح؛ لخدمةِ مصالح البلاد والعِبَاد، بدلاً من تصنيفه في خانة المُؤامرات وافتعال الأزمات ومكر الدَّسائس!

ففي كتاب «فن الحرب» للجنرال الصّيني سون تزو، والذي يرى من منظوره «أن قمَّة الحكمة والتفوُّق في أنْ تحصلَ مِنَ الخصم على ما تُريد دُوْن قتال...»، هذه الكلمات التي قالها تدل «بذكاءٍ لا محدود» على فن إدارة الصراع في مُختلف المجالات، وتُعيدُنا إلى التعريف الصحيح للسياسة بأنَّها فنُ المُمكن. ومن الخطأ الفادح: اعتبار «فنّ المُمكن» على أنَّه الخضوعُ والتسليم للواقع السياسي والاستكانةِ له وعدمِ السَّعي لتطويره إلى الأفضل؛ لأنَّ ذلك يتعارض مع تعريف «فنِّ المُمكن»... تلك القاعدة الأصيلة التي تعني «التجسير المُستمر للفجوة بين الواقع والخيال، وبين المُتحقِّق والمُمكن تحقيقه، وفهم وإدراك الأبعاد التاريخية والجغرافية واستيعاب الظروف المحيطة ومراعاة الأوضاع الإقليمية فضلاً عن المحلية، مع استحضار قوَّة الإرادة والعزيمة التي تعزّز من مُمكناته، وتحُدُّ من مساحات الاستحالة».

إن قاعدة السياسة «فن الممكن» ليست وليدة اليوم أو البارحة، بل متجذرة في التاريخ منذ القِدم ولا نبالغ إن قلنا إنها أزلية «لا يُعلم لها بداية»، فقبل 1400 عام عبّر عنها أحد دُهاة العرب الأربعة في التاريخ العربي والإسلامي الصحابي الجليل، معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، حين قيل له كيف سُسْتَ الشام أربعين سنة، ولم تحدث فتنة، والدنيا تَغلي من حولك؟ فقال: «إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت؛ كانوا إذا مدّوها أرخيتُها، وإذا أرخوها مددتُها».

نعم إنّ السياسة «فن الممكن» واندماج القوتين الناعمة والخشنة... نعم السياسة شعرةُ معاوية.

Twitter: @Fahad_aljabri

Email: Al-jbri@hotmail.com