«السوبرماركت»... من مصطلح غربي إلى تجربة كويتية رائدة

تصغير
تكبير

في قراءة توثيقية سريعة لبدايات التسوق الحديث وتحولات الاسم والهوية التجارية في الكويت، ظهر مصطلح Supermarket (سوبر ماركت) وبدأ في استخدامه في أواخر القرن العشرين في بريطانيا والولايات المتحدة. ولم يكن المصطلح في نشأته اسماً لشركة تجارية بعينها، بل وصفاً لنمط بيع حديث يقوم على الخدمة الذاتية (Self-Service) بدل البيع التقليدي من خلف الطاولة، وهو النمط الذي كان يُعرف محلياً باسم «الدكان» أو «البقالة».

ومع تطور أساليب التجارة، تبلور هذا المفهوم ليعتمد على عرض السلع الغذائية بشكل مفتوح ومنظم، وجمع احتياجات الأسرة اليومية في متجر واحد بدل الاعتماد على تعدد الدكاكين. ومع اتساع النشاط التجاري البريطاني في تلك المرحلة، انتقل المصطلح إلى الأسواق المرتبطة ببريطانيا، ومنها الخليج العربي، حيث استخدمه كثير من التجار المحليين اسماً تجارياً لمشاريعهم تعبيراً عن حداثة الفكرة، لا عن انتساب لشركة أجنبية بعينها.

في هذا السياق، اختار أحد التجار الكويتيين الرواد في بدايات خمسينات القرن الماضي وهو عبدالخضر عبدالرحيم -رحمه الله- الاسم التجاري «سوبر ماركت» لمشروعه وهو عبارة عن سوق مركزي لبيع المواد الغذائية المستوردة من بريطانيا. وكان مشروعه تبنّياً ذكياً لمفهوم حديث في بيئة تجارية كانت لاتزال تعتمد في معظمها على الدكان التقليدي.

أُنشئ الفرع الأول للمحل في مدينة الأحمدي في بداية الخمسينات، وهي مدينة حديثة آنذاك ارتبطت بصناعة النفط وضمّت شريحة واسعة من الموظفين الأجانب لا سيما البريطانيين. وقد شكّلت هذه البيئة مجتمعاً أكثر تقبّلاً لفكرة التسوق المنظم والخدمة الذاتية.

ومع نجاح التجربة الأولى، افتُتح فرع ثانٍ في مدينة الكويت، وتحديداً في شارع الجهراء قرب البريد العام، الذي يُعد أحد الشرايين التجارية الحيوية في العاصمة. وأسهم هذا التوسع في ترسيخ اسم «سوبر ماركت» في الذاكرة الاستهلاكية بوصفه متجراً غذائياً منظماً يختلف عن النمط السائد آنذاك.

لم يكن نجاح محلات بيع المواد الغذائية المستوردة ممكناً دون خدمات لوجستية مساندة، وعلى رأسها مخازن التبريد، لا سيما للمواد سريعة التلف والمجمدة. وإدراكاً لهذه الحاجة، بادر التاجر عبدالخضر عبدالرحيم، إلى إنشاء مخازن تبريد متخصصة، عبارة عن ثلاجات (فريزرات) ضخمة على شكل غرف تبريد، خُصصت لحفظ المواد الغذائية المستوردة. وقد أُقيمت هذه المخازن في منطقة «المقوع الشرقي» على موقع مصانع «شركة مرطبات الكويت»، التي تنتج «مشن» و«زمزم» للمرطبات الغازية، إضافة إلى تخزين الحليب المعقم المستورد من البصرة مما وفّر بنية تحتية متكاملة دعمت استمرارية التوريد وجودة المنتجات المعروضة. ولم يكن هذا التوسع اللوجستي منفصلاً عن خبرة المؤسس المهنية؛ إذ كان التبريد والتكييف المركزي أحد أنشطة مقاولاته الرئيسة في مدينة الأحمدي، وهو فرع من فروع أعمال المقاولات الإنشائية والكهروميكانيكية، وقد مكّنته هذه الخبرة من الربط المبكر بين المقاولات والتجارة والخدمات اللوجستية، في وقت لم يكن هذا التكامل شائعاً بعد في السوق المحلي.

ومن المهم تصحيح توصيف تاريخي شائع جرى تداوله في بعض الطروحات، إذ وُصف المتجر الراقي «جاشنمال» بأنه أول سوبرماركت في الكويت. والحقيقة أن «جاشنمال» كان متجراً رئيسياً لبيع الكماليات والسلع المستوردة، مثل الملابس، والأجهزة الكهربائية والإلكترونية، والكاميرات، والأسطوانات، وغيرها من السلع غير الغذائية. وربما احتوى على قسم جانبي محدود لبيع بعض المواد الغذائية المستوردة، إلا أن ذلك لا يجعله «سوبرماركت» بالمعنى التجاري الدقيق والذي يقوم أساساً على تخصص المتجر في بيع المواد الغذائية كنشاط رئيسي، لا كقسم ثانوي ضمن متجر متعدد الأقسام.

ومع اتساع شهرة مشروع «سوبر ماركت»، قام أحد مديري المحل، وافتتح متجراً مشابهاً بالقرب من فرع مدينة الكويت، مطلقاً عليه اسم The New Supermarket (سوبر ماركت الجديد). وقد أدّى اختيار هذا الاسم القريب جداً من الاسم الأصلي، لاسيما استخدام كلمة «الجديد»، إلى إحداث لبس لدى المتسوقين، وأثرٍ ملموس في المبيعات، في مرحلة لم تكن فيها قوانين حماية الأسماء التجارية والملكية الفكرية قد استقرت بعد.

وعقب خروج المدير اياه، اتخذ المؤسس خطوة تنظيمية للحفاظ على استقرار العمل، حيث استعان بكفاءات إدارية من ذوي الخبرة. وفي هذا الإطار، كُلّف اللبناني السيد فهمي العشي، رحمه الله، في مرحلة حساسة اتسمت بحدة المنافسة وتشابك الأسماء التجارية، وأسهم ذلك في تعزيز الانضباط الإداري واستمرارية العمل وفق المفهوم الذي أُسس عليه المشروع.

أمام هذا الواقع، اتخذ المؤسس قراراً تجارياً إستراتيجياً بتغيير الاسم التجاري إلى «محلات زمزم» ZamZam Store، في خطوة تعكس فهماً مبكراً لأهمية الهوية والتميّز في السوق، لا تراجعاً عن الفكرة لتواصل «محلات زمزم» نشاطها بنجاح حتى منتصف الثمانينات، من خلال فروعها مقابل قصر دسمان ومدينة الأحمدي، وهما منطقتان كانتا تضمان آنذاك عدداً كبيراً من أفراد الجالية الأوروبية وخصوصاً الإنكليزية، ما جعلهما موقعين إستراتيجيين لاستمرار نمط التسوق الحديث القائم على السلع المستوردة وتنظيم العرض.

وخلاصة القول، لا تمثل تجربة «سوبر ماركت» ثم «محلات زمزم» مجرد قصة متجر أو تغيير اسم تجاري بل تعكس دخول مفهوم السوبرماركت أو السوق المركزي إلى الكويت، حيث أسهم التاجر عبدالخضر عبدالرحيم، في تدريب كوادر الجمعيات التعاونية وتأهيلهم للعمل في الأسواق المركزية، فكانت بذلك بدايات الوعي بالعلامة التجارية والمنافسة والانتقال من التجارة التقليدية إلى التنظيم الحديث وهو ما يُترجم قدرة التاجر الكويتي المبكر على التكامل بين التجارة واللوجستيات والإدارة والتكيّف الإستراتيجي مع السوق. ومن هذا المنظور، تشكّل هذه التجربة جزءاً أصيلاً من الذاكرة الاقتصادية والاجتماعية لدولة الكويت تستحق أن تُروى بوصفها إحدى اللبنات الأولى للتجارة الحديثة في البلاد.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي