هم المميزون يَتَساقطون كأوراق الشجر في خريفٍ حزين، بعضهم يخطفه الحنين إلى زمن آخَر أكثر إنسانية من هذا الزمن الرديء فينكفئ وحيداً معتزلاً العطاء، وبعضهم يخطفه الموت الذي يرتدي قناع فيروسٍ غدّار وفتّاك في عز عطائه فيبعثر أوراقه ويغلق صفحات كتابه الأخير.

اليوم واحد من كبار لبنان هوى، هو رمزي نجار المفكر والإعلامي وصانع مجد لبنان الإعلاني على مرّ عقود.

ليس شخصية عادية، بل مميّز من لبنان صديق الكبار ورفيق الشباب وأستاذهم، تغلّب عليه «كورونا» وأودى بحياته تاركاً جرحاً إضافيا في قلب الوطن الصغير ووجدانه.

مُفْجِعٌ وقاسي الوقع على لبنان والعالم العربي كان خبر رحيل عملاق الإعلام والإعلان والكاتب والمفكّر. وكأن الظلمة حين تهوي لا تترك مكاناً لقبس من نور، فلبنان الذي يحتاج اليوم أشد ما يحتاجه الى عقول نيرة جامعة قادرة على التواصل والحوار، خسِر بفقدان رمزي نجار رجلَ فكرٍ وإبداع، آمَن بالحوار الديموقراطي والسلوك العقلاني البعيد عن الغرائز كما بقدرة الشباب اللبناني على تغيير المسارات الخاطئة والسير نحو مستقبل أفضل.

شهر بأكمله قاوم نجار فيروس «كورونا» في مستشفى رزق اللبناني الى أن تغلّب عليه في النهاية فأسلم الروح صباح اليوم لتتحوّل مواقع التواصل الاجتماعي مساحة رثاء لكبيرٍ صار من رموز لبنان اللامع، ونعاه كبار المسؤولين وفنانون وإعلاميون ورجال إعلان وكثر ممّن ترك الراحل بصمة في حياتهم أو قلوبهم.

الرئيس سعد الحريري نعاه بقوله: «برحيل المبدع رمزي نجار يخسر الاعلام العربي واللبناني مفكراً وكاتباً ومؤلفاً طبع أجيالاً ومؤسسات برؤيته الثاقبة وخبرته الفريدة، وأخسر أنا اخاً وصديقاً سأفتقده وأفتقد مشورته لوقت طويل. رحمك الله يا رمزي وأسكنك فسيح جنانه».

كذلك نعت وزيرة الإعلام في الحكومة المستقيلة الكاتب الراحل قائلة: «في رحيل العظماء تنطفئ منارة كبرى و لا يبقى لنا سوى مشاعر يعتصرها الألم» بعد أن كانت قد كتبت«غيّب فيروس كورونا اليوم الصديق رمزي النجار احد عمالقة الإعلام و الإعلان في لبنان و العالم».

أما شقيقه الكاتب مروان نجار فكانت كلماته دموع رثاء من أخ لأخيه: «شقيقي الأصغر والكبير ذلك المارد»المميّز" الجميل رمزي صِرنا بلا حكمته وحنانه أقفرت دنياي. فبأيّ ذكاءٍ، بأيّ نفاذ رؤية وبُعد رؤيا، بأيّ سحرٍ وخبر سعيد بقي لي أن أفرح الآن؟".

يصعب تحديد القطاعات التي خسرت برحيله. فالرجل كان بحراً من الفكر والعطاء والإنجازات. عمل في مجالات عدة وإن كان ملعبه الأوسع القطاع الإعلاني الذي كان ركناً من أركانه ومفكّريه. فهو أسس شركته الخاصة بالشراكة مع واحدة من كبريات شركات الإعلان في العالم Saatchi & Saatchi وترأس فرعها في لبنان فارتقى بالمجال الاعلاني الى مستوى غير مسبوق من الاحترافية والنضج والرسالة الهادفة ما جعله يحوز على عدد من الجوائز العالمية. وفي عزّ الأزمات بقي يصارع ليحفظ للإعلان موقَعه الأخلاقي وليُدخل هذه الناحية الإخلاقية ونوعاً من ميثاق الشرف الى صلب قوانين شركات الإعلان.

كثيرة هي المناصب المحلية والعالمية التي شغلها رمزي نجار في المجال الاعلاني فقد كان رئيس «رابطة الإعلانات الدولية» فرع لبنان، وساهم في تأسيس واحدة من أهم كليات الإعلان في لبنان في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة وجامعة البلمند. نجاحاته في كتابة الإعلانات وتحويلها الى أعمال فكرية واجتماعية تطال كل الناس لم يوازها نجاحاً إلا عملُه التلفزيوني في واحد من أنجح البرامج التي عرفها التلفزيون اللبناني وهو «المميزون». فقد ارتبط اسمه بهذا البرنامج الثقافي الذي حظي بشهرة واسعة جداً في لبنان والعالم العربي وتبوأ المراتب الأول في هذا النوع من البرامج. ومن خلاله أعاد الى الثقافة موقعها وعاود شدّ أواصر العلاقة بين الشباب والثقافة العامة.

فهو لم ينس أهمية الشباب يوماً ودورهم في المجتمع. فقد بدأ حياته المهنية كأستاذ أكاديمي بعد تخرجه من الجامعة الأميركية ونيله ماجستير في الاتصال الجماهيري، وبكالوريوس في الأدب المقارن والتعليم. واستمر طوال مسيرته المهنية والفكرية مؤمناً بأهمية الاستثمار في الأدمغة وبدور العلم والتطوير في بناء مستقبل الأوطان.

لم يشأ النجار يوماً أن يتحجّر داخل إطار محدد بل كان يبحث دائماً سواء بالنسبة الى مسيرته الشخصية أو في أفكاره العامة عن التطور ومواكبة العصر. من هنا جاء كتابه «وجهة نظر وسفر» محاولةً راقيةً لتحديد معنى جديد للإعلان والإعلام يتوافق مع التطورات التقنية في عالم الاتصالات وبروز مواقع التواصل الاجتماعي. في مقدمة الكتاب يلخص الواقع قائلاً: «أطمح أن أرافقكم في محاولةٍ فصّلتها في مقدمة الكتاب فحدّدنا معاً أهدافها كما غايتها، كي نفي الإعلام أو التواصل عموماً، حقّه، مع الإضاءة على عالمنا نحن: عالم الناطقين باللغة العربيّة والمنتمين بالجغرافيا كما في التاريخ؛ إلى نسيج واحد يطمحُ إلى الأكثر ويستحق الأكثر من إعلامه وإعلانه وتواصله. وفي سياق هذه الرحلة، سنتخيّل معاً وبمادة الإستنتاج الموضوعي المحبوك من الوقائع والمنطق؛ كيف سيكون مستقبل الإعلام العربي كيف سنتواصل في العقود المقبلة؟ هل نبقى كما نحن: من فئة المستهلكين فقط للإعلام وللتواصل أم نرتقي إلى صناعة إعلامنا بأنفسنا؛ ولو في الحد الأدنى وأعني حتماً صناعة المحتوى؟ على هذه الأسس؛ يبدأ مَتْنُ الكتاب... وتبدأ الرحلة».

وعلى الصعيد الاجتماعي شكل كتابه الأخير «فكر على ورق...نحبّر لنعبّر» تجربة جديدة و مبتكرة في الكتابة حيث يتشارك القارئ والكاتب في التعبير في الكتاب إذ ترك في كل نص من النصوص صفحة بيضاء للكتابة عليها من القارئ لتسجيل ردة فعله على النص في عملية تِفاعُل هدفها مشاركة المتلقي عملياً في توجيه غير مباشر للكتابة. وقد عبّر في كتابه الذي أراده ورَقياً عن مجموعة من المفاهيم تشمل قطاعات أساسية في الوطن وذلك عبر رؤية تحمل خلاصة تجربته الإنسانية ووضوح الرؤية عنده و التفكير العقلاني وتحض القارئ على التفلت من سيطرة وسائل التواصل للانتقال إلى عمق فكري والبحث في مواضيع يشجعه الكاتب عليها.

بين الإعلان والتسويق والفلسفة والسياسة والرؤية الاجتماعية حلّق رمزي النجار بفكره واستطاع أن يوجِد التوازن الصحيح المثمر بين كل المجالات التي خاضها ليكون مميّزاً في حضوره ويترك فراغاً كبيراً في غيابه.