رأي قلمي

السبّاقون والمتقاعسون...!

تصغير
تكبير

يقول أحد أهل العلم: إن أساس كل العلوم وجود ظاهرتين مختلفتين، أو وجود مستويين في ظاهرة واحدة، مما يشجع الناس على إجراء المقارنات والموازنات، ومما يوسع منطقة الوعي، ويدخل فيها صوراً وأفكاراً كانت بعيدة عنها. ومن هاتين الظاهرتين المختلفتين أو المستويين في ظاهرة واحدة، بعض صفات السبّاقين، وبعض صفات وسمات العاجزين أو المتقاعسين، وحتى نثري مشاعرنا وعقولنا ببعض المفاهيم التي تساعدنا على المزيد من البلورة للسمات والمواقف المطلوبة، وكذلك الصفات والمواقف المعوّقة للنمو والسير في طريق الاكتمال.
السبّاقون لا يرتبطون بمن حولهم، ولا يقعون أسرى لمحيطهم الطبيعي أو محيطهم الاجتماعي، ولا يتخذون من انحراف المجتمع حجة للانحراف، لأنهم يعتقدون أن المسؤولية فردية، كما قال الله - جل جلاله - «ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى». أما المتقاعسون فهم يحملون مشاعر طفولية، تُترجم دائماً إلى الاعتماد على الآخرين، ويعتقدون بأن مشكلاتهم ليست بسبب قصورهم الشخصي، وإنما بسبب سوء الحظ أو التآمر عليهم أو تدهور الزمان... فهم غير مسؤولين عنها، ولا قادرين على معالجتها، وإلى جانب كل ذلك يُخضعون قيمهم لمشاعرهم وظروفهم ومصالحهم، فهم محرومون من متانة الدين وصلابة الخلق.
غالباً المفردات اللغوية التي يُكثر أحدنا من استخدامها تعبّر بوضوح عن رؤيته العامة للحياة، كما تعبّر عن مدى رحابة آفاقه الفكرية والنفسية، وكل من السباقين والمتقاعسين أو العاجزين له نمط لغوي خاص به نسطيع تكوين إحساس واضح بكل منهما. فمثلا لغة المتقاعسين: لا أستطيع فعل أي شيء - هكذا أنا - لن يسمحوا بذلك - يجب عليّ - لو أن - هذه مخاطرة - هذا صعب للغاية - أشعر بالعجز... وهكذا. أما لغة السبّاقين: دعونا ننظر إلى البدائل - أستطيع السيطرة على مشاعري - سأجد فرصة ولو صغيرة - يمكنني اختيار طريقة مختلفة - سوف أختار الرد المناسب - هذه فرصة - هذا يمثل تحدّيا - ساعدني على الفهم - أود الحصول على مساعدتك... وهكذا. لغة التقاعس هذه تشكل مع الأيام نظاماً فكرياً ونفسياً لدى صاحبها، وتصبح في النهاية عبارة عن أنماط تنميط تضغط على التفتح الفكري والروحي له. السباقون يستغلون أوقاتهم على نحو حسن، وهم واضحون جداً في مبادئهم وطموحاتهم وأهدافهم وقراراتهم، رغم قلة الإمكانات التي بين أيديهم، فإن ثمار جهودهم تبدو دائماً وفيرة، هم لا يملكون الكثير من الأشياء، لكنّهم يقومون بالكثير من الأعمال، والجوهر لديهم دائماً أهم من المظهر، نجاحاتهم تأتي ثماراً لجهودهم، وما يستخدمونه من إمكاناتهم.
العاجزون أحلامهم متواضعة، وطموحاتهم محدودة، ونفوسهم مستكينة، وعقولهم خاملة، وحركتهم بطيئة، وحين يتحركون فإنهم يدورون في حلقة مفرغة، وهم يتحملون الآلام إلى ما لا نهاية، المتقاعسون يجلسون أمام التلفاز ساعات طويلة، حيث لا برامج ولا أهداف تستحق العمل، وهم يشترون الفرش الوثيرة ويجلسون عليها أطول مدة ممكنة والاستلقاء أحب إليهم من الجلوس، يعانون من البطالة رغم توافر فرص العمل، وحين يتجه الناس إلى أعمالهم في الصباح يتجهون هم إلى النوم، لأنهم لم يناموا في الليل أو يتجهون إلى أماكن عملهم حيث البطالة المقنّعة، المتقاعسون لا يعتمدون على كفاءتهم الشخصية وإنما ينجزون أعمالهم عن طريق الرشوة أو الواسطة، وعندما تحيط بهم مشكلة يؤثرون الدوران حولها عوضاً عن مواجهتها، ولذلك فالتسويف وتأجيل أعمال اليوم إلى الغد من أبرز سماتهم، لا يملكون روح الاستمرار على العمل فهم يبحثون دائماً عن (ضربة العمر)، هم أسرى اللحظة الحاضرة، وشأنهم دائماً الحصول على القليل من الكثير، ويعيشون في منطقة رمادية، حدودها اللاسلم واللاحرب واللاقرار والبكاء على الأطلال والرؤية الضبابية.
إن السبّاق والمتقاعس قد يعيشان في أسرة واحدة وقد يحملان شهادتين متماثلتين ويقومان بأعمال متشابهة، لكن كل ذلك عبارة عن تشابه شكلي لأنهما ينتميان إلى عالَمين متناقضين لا يجمع بينهما سوى عبقرية المكان.

‏M.alwohaib@gmail.com
‏@mona_alwohaib

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي