في طفولتي كان مصروفي ربع دينار، لكنني اكتشفت أني لا أحتاج هذا «الربع»، الذي ظل والداي يغدقانه عليّ من دون تحقق في سبل صرفه، ونظراً لأنني كنت وما زلت أمقت المشروبات الغازية والعلكة والسكاكر والحب الشمسي والبنك، كان مصير تلك الأرباع الأدراج.
ظلت أدراجي تكدس الربع فوق الربع لأيام ولأسابيع ولشهور ولأعوام ربما... حتى كان يوم شاهدت فيه إعلاناً في إحدى الصحف عن درج جديد ومكتبة، كان سعر الدرج عشرين ديناراً، في حين كان ثمن المكتبة خمسة وعشرين ديناراً، فتحت الدرج لعد الأرباع فوجدتها تكفي لشراء الدرج الجديد والمكتبة معا وربما تزيد قليلاً.
حملت الإعلان إلى والديّ مصحوباً بطلب اصطحابي إلى محل الأثاث المعلن، قلتها بثقة من دون طلب شراء، فأنا التي أملك المال، وأنا التي سأشتري ما أريد بمنتهى الاستقلالية، استغربا وطالبا فتح تحقيق فوري حول تضخم الأرباع والتأكد من مصادر الأموال، تضمن فتح الدرج وعد الأرباع حتى تم إثبات عملية الادخار التي راحا يتندران بها بافتخار.
تذكرت واقعة غسيل الأرباع، وأنا أسمع عن عمليات غسيل الأموال، التي صاحبها غسيل أدمغة، بأن كل من يحصل على الأموال يحصل عليها بطرق مشبوهة ومريبة وغير مشروعة!
رغم ان بعض الأشخاص فاق دخلهم معدل إنفاقهم، وأظنها المعادلة الوحيدة المضمونة والمشروعة لجمع المال بطريقة مشروعة، بمعنى أن يكون مصروفك أقل من مدخولك.
ماذا نتوقع من أشخاص يلبسون ويأكلون ويشربون ويسافرون ويتنقلون بالمجان؟ بل وفي أحيان كثيرة مصروفاتهم المدفوعة... مدفوع لها بونص إعلاني أو دعائي، يجعل الأرصدة ترتفع وتزيد «اللهم زِد وبارك لهم ولنا».
في المقابل نحن على الضفة الأخرى نشاهد ونقلد ونصرف كثيراً من دون موازنة، حتى يختل توازننا ثم نتحسر أكثر، فكم مرة فتحت دولابك وتمنيت استبدال الأموال بثيابك الغالية؟ تلك التي علقتها من دون أن تزيل ورقة السعر من عليها، ولم ترتدها وأنت تتحسر على الثمن الذي دفعته من أجلها!
تذكرت مشهداً من مسلسل أميركي شهير، واجهت بطلته فيه تهديداً بطردها من بيتها، الذي لا تملك ثمنه في حين كان إجمالي ما أنفقته لشراء أحذيتها يفوق سعر البيت!
صحيح أن بعض الأشياء التي نسرف في شرائها تجلب لنا سعادة لا ثمن لها، ولكن إذا كانت سعادتنا في الصرف، فلماذا نتحسر إذاً على عدم صرف غيرنا؟ هل لأننا لا نستطيع أن نكون هم؟ لأننا في الأساس عجزنا أن نكون نحن... الذين «لا نلبس كما يلبس الناس ولا نأكل كما يأكل الناس»... فالتفرد سر الجمال، والانشغال بالنفس سر الراحة، والانتقاص من الغير لا ينقص منه ولا ربع!