تشهد الأسواق النفطية العالمية حالة واضحة من التخمة، إذ تتدفق كميات ضخمة من النفط تفوق مستويات الطلب الفعلي، الأمر الذي يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل الأسعار: هل يمكن أن يتراجع سعر برميل النفط إلى مستوى 55 دولاراً؟ إذ يبلغ إجمالي الإنتاج النفطي العالمي اليوم أكثر من 106 ملايين برميل يومياً، وهي كميات وفيرة تفوق الطلب العالمي الحالي، المقدر بنحو 104 ملايين برميل يومياً، ما يعني وجود فائض يقارب مليوني برميل يومياً في الأسواق العالمية.
وقد انعكس هذا الفائض بشكل مباشر على الأسعار، حيث تراجع سعر خام غرب تكساس الأميركي إلى نحو 57 دولاراً للبرميل، في حين يسجل خام برنت العالمي قرابة 61 دولاراً للبرميل في الوقت الراهن. وتزداد المخاوف من استمرار هذا النطاق السعري حتى نهاية العام المقبل، ما لم تتدخل منظمة أوبك لضبط مستويات الإنتاج وإعادة قدر من الاستقرار إلى الأسواق النفطية.
غير أن المنظمة قد ترى أن التدخل المتكرر لم يعد مجدياً، سواء عبر الخفض التقليدي للإنتاج أو من خلال إعادة توزيع الحصص بين أعضائها، في ظل تكرار السيناريو ذاته كل ستة أشهر أو أكثر خلال العام الواحد. ومن دون عقد اجتماع استثنائي واتخاذ قرارات حاسمة، قد تواصل أسعار النفط مسارها التراجعي.
ويبرز احتمال آخر مفاده أن منظمة أوبك قد سئمت من تكرار خفض الإنتاج، في الوقت الذي تستفيد فيه الدول المنتجة الأخرى من هذه التخفيضات، دون أن تتحمل كلفتها. وربما ترغب المنظمة في اختبار مدى الانخفاض السعري القادر على تحفيز ارتفاع فوري في الأسعار، ولو كان موقتاً، كما حدث في مرات سابقة. إلا أن هذا الارتفاع غالباً ما لا يدوم طويلًا، لتُعاد الدورة ذاتها من جديد، الأمر الذي يفتح الباب أمام التساؤل: هل هناك سيناريو بديل؟ وتزداد تعقيدات المشهد حين تنظر أوبك إلى المنتجين من خارجها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، التي يبلغ إنتاجها نحو 13.5 مليون برميل يومياً، ولاتزال تواصل التوسع بوتيرة متسارعة.
ويأمل المنتج الأميركي في تدخل سريع من أوبك لتصحيح الأسعار وتنظيم الإنتاج، بما يضمن له تحقيق المكاسب الأكبر مع نهاية العام، بعد تغطية تكاليف البحث والتنقيب والإنتاج، وتوزيع المكافآت على العاملين، والأرباح على المساهمين.
في المقابل، تجد دول (أوبك+) نفسها مضطرة إلى اللجوء للبنوك، غالباً الأميركية، لسد العجز في ميزانياتها السنوية، نتيجة عدم بلوغ السعر التعادلي المطلوب، وضعف الأسعار الناجم عن التخمة في الأسواق النفطية، والتي يُعد تزايد الإنتاج الأميركي أحد أبرز أسبابها.
وفي الوقت الذي تواصل فيه دول أوبك زيادة استثماراتها في الحقول النفطية عبر التوسع في عمليات الحفر والاكتشاف، تجد نفسها مضطرة في كل اجتماع تقريباً إلى خفض الإنتاج لمعالجة انخفاض الأسعار. غير أن هذه الجهود تُقابل بزيادات إنتاجية من دول أخرى، حيث يقترب الإنتاج النفطي البرازيلي من نحو 5.9 مليون برميل يومياً بحلول نهاية العام المقبل، إضافة إلى الإمدادات الآتية من دول أميركا اللاتينية، مثل غيانا، التي يبلغ إنتاجها قرابة 1.5 مليون برميل يومياً.
ويُتوقع أن يبلغ الطلب العالمي على النفط في العام المقبل نحو 104.5 مليون برميل يومياً. ومن بين الدول القليلة التي تمتلك طاقات فائضة حقيقية لتلبية هذا الطلب، تبرز كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، بقدرة إضافية تتجاوز 500 ألف برميل يومياً لكل منهما.
في المقابل، يتراوح إنتاج روسيا من النفط الخام بين 9 و10 ملايين برميل يومياً، ما يجعلها ثالث أكبر منتج عالمي بعد الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. ومع تراجع أثر العقوبات الأوروبية والأميركية على النفط والمشتقات الروسية، يُتوقع أن تواصل روسيا زيادة إنتاجها، لا سيما من المشتقات النفطية المكررة في مصافيها المشتركة داخل أوروبا، وهو ما قد يسهم في مزيد من الضغط على الأسعار العالمية.
وليس من المستبعد، في ظل هذه المعطيات، أن يتراجع سعر النفط إلى ما دون 60 دولاراً للبرميل، وربما يصل إلى مستوى 55 دولاراً. وقد يؤدي هذا الانخفاض إلى حالة من «الهلع المفرح» لدى مستهلكي النفط والأسواق العالمية، ما سيجبر تحالف (أوبك+) على عقد اجتماع استثنائي عاجل، واتخاذ إجراءات الخفض المعتادة. غير أن السؤال الجوهري يبقى: ماذا بعد؟ ولماذا يتكرر هذا السيناريو على الدوام؟ هل هناك حل آخر غير ترك الأمور على حالها؟ وهل يمكن اختبار قدرة المنتجين على الصمود في سباق زيادة الإنتاج؟ وإلى متى يمكن أن يستمر ذلك؟ وهل تكفي سنة واحدة لتحديد الفائز والخاسر؟ وما الكلفة الحقيقية لإنتاج البرميل الواحد لدى كل دولة؟
تُترك هذه الأسئلة مفتوحة أمام مالكي وصناع القرار في قطاع النفط. وقد لا يكون الجواب في خفض الإنتاج وحده، بل ربما في البحث عن بدائل إستراتيجية، سواء عبر تسريع التحول إلى مصادر طاقة أخرى، أو من خلال تطوير الصناعة النفطية ذاتها، عبر الاستثمار المكثف في المشتقات النفطية وتعظيم الاستفادة منها. ويبرز هنا خيار الدخول بقوة في صناعة البتروكيماويات المتقدمة، واستثمار اللقيم النفطي في تطوير هذه الصناعة بالشراكة مع شركات أجنبية متخصصة، بما يضمن استدامة العوائد وتقليل الاعتماد على تقلبات أسعار الخام.
كاتب ومحلل نفطي مستقل